الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يبطل به الصلح بعد وجوده .

                                                                                                                                فنقول وبالله التوفيق ما يبطل به الصلح أشياء ( منها ) الإقالة فيما سوى القصاص ; لأن ما سوى القصاص لا يخلو عن معنى معاوضة المال بالمال ، فكان محتملا للفسخ كالبيع ونحوه ( فأما ) في القصاص فالصلح فيه إسقاط محض ; لأنه عفو ، والعفو إسقاط فلا يحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه ( ومنها ) لحاق المرتد بدار الحرب ، أو موته على الردة عند أبي حنيفة بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده على الإسلام أو اللحوق بدار الحرب والموت ، فإن أسلم نفذ ، وإن لحق بدار الحرب ، وقضى القاضي به ، أو قتل ، أو مات على الردة تبطل ، وعندهما نافذة والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب يبطل من صلحها ما يبطل من صلح الحربية ; لأن حكمها حكم الحربية ، والمسألة تعرف في موضعها ، إن شاء الله تعالى ( ومنها ) الرد بخيار العيب والرؤية ; لأنه يفسخ العقد لما علم ( ومنها ) الاستحقاق ، وأنه ليس إبطالا حقيقة ، بل هو بيان أن الصلح لم يصح أصلا لا أنه بطل بعد الصحة إلا أنه إبطال من حيث الظاهر لنفاذ الصلح ظاهرا ، فيجوز إلحاقه بهذا القسم لكنه ليس بإبطال حقيقة ، فكان إلحاقه بأقسام الشرائط على ما ذكرنا أولى وأقرب إلى الصناعة والفقه ، فكان أولى ( ومنها ) هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة ; لأنه بمعنى الإجازة ، وإنما تبطل بموت أحد المتعاقدين ، وأما هلاك ما وقع الصلح على منفعته هل يوجب بطلان الصلح فلا يخلو إما أن كان حيوانا كالعبد والدابة أو غير حيوان كالدار والبيت ، فإن كان حيوانا ; لا يخلو إما أن هلك بنفسه ، أو باستهلاك ، فإن هلك بنفسه يبطل الصلح إجماعا ، وإن هلك باستهلاك ، فلا يخلو من ثلاثة أوجه إما إن استهلكه أجنبي ، وإما إن استهلكه المدعى عليه ، وإما إن استهلكه المدعي ، فإن استهلكه أجنبي بطل الصلح عند محمد ، وقال أبو يوسف : لا يبطل ولكن للمدعي الخيار إن شاء نقض الصلح ، وإن شاء اشترى له بقيمته عبدا يخدمه إلى المدة المضروبة .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد إن الصلح على المنفعة بمنزلة الإجارة ; لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض ، وقد وجد ; ولهذا ملك إجارة العبد من غيره بمنزلة المستأجر في باب الإجارة ، والإجارة تبطل بهلاك المستأجر سواء هلك بنفسه ، أو باستهلاك كذا هذا .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف إن هذا صلح فيه معنى الإجارة ، وكما أن معنى المعاوضة لازم في الإجارة فمعنى استيفاء عين الحق أصل في الصلح فيجب اعتبارهما جميعا ما أمكن ، ومعلوم أنه لا يمكن استيفاء الحق من المنفعة ; لأنها ليست من جنس المدعى فيجب تحقيق معنى الاستيفاء من محل المنفعة ، وهو الرقبة ، ولا يمكن ذلك إلا بعد ثبوت الملك له فيها فتجعل كأنها ملكه في حق استيفاء حقه منها وبعد القتل إن تعذر الاستيفاء من عينها يمكن من بدلها ، فكان له أن يستوفي من البدل بأن يشتري له عبدا فيخدمه إلى [ ص: 55 ] المدة المشروطة ، وله حق النقض أيضا لتعذر محل الاستيفاء ، وإن استهلكه المدعى عليه بأن قتله ، أو كان عبدا فأعتقه يبطل الصلح أيضا ، وقيل هذا قول محمد ، فأما على أصل أبي يوسف فلا يبطل ، وتلزمه القيمة ليشتري له بها عبدا آخر يخدمه إلى المدة المشروطة ، كما إذا قتله أجنبي ، وكالراهن إذا قتل العبد المرهون ، أو أعتقه ، وهذا لأن رقبة العبد ، وإن كانت مملوكة للمدعى عليه لكنها مشغولة بحق الغير ، وهو المدعي لتعلق حقه بها ، فتجب رعايتهما جميعا بتنفيذ العتق ، ويضمن القيمة ، كما في الرهن ، وكذا لو استهلكه المدعي بطل الصلح عند محمد ، وعند أبي يوسف لا يبطل ، وتؤخذ من المدعي قيمة العبد ، ويشترى عبد آخر يخدمه ، وهل يثبت الخيار للمدعي في نقض الصلح على مذهبه فيه نظر هذا إذا كان الصلح على منافع الحيوان فأما إذا كان على سكنى بيت فهلك بنفسه بأن انهدم ، أو باستهلاك بأن هدمه غيره لا يبطل الصلح ، ولكن لصاحب السكنى ، وهو المدعي الخيار إن شاء بناه صاحب البيت بيتا آخر يسكنه إلى المدة المضروبة ، وإن شاء نقض الصلح ، ولا يتعذر هنا خلاف محمد ; لأن إجارة العبد تبطل بموته بالإجماع ، وإجارة الدار لا تبطل بانهدامها ، ولصاحب الدار أن يبنيها مرة أخرى في بعض إشارات الروايات عن أصحابنا على ما مر في الإجارات .

                                                                                                                                ولو تصالحا عن إنكار المدعى عليه على مال ، ثم أقر المدعى عليه بعد الصلح لا ينفسخ الصلح ; لأن الإقرار مبين أن الصلح وقع معاوضة من الجانبين فكان مقرا للصلح لا مبطلا له .

                                                                                                                                ولو أقام المدعي البينة بعد الصلح لا تسمع بينته إلا إذا ظهر ببدل الصلح عيب ، وأنكر المدعى عليه ، فأقام البينة ليرده بالعيب ، فتسمع بينته ، وتبين أن للصلح الماضي حكم الصلح عن إقرار المدعى عليه فكل حكم ثبت في ذلك ثبت في هذا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية