الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 29 ] وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه

و ( إذ ) اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره : اذكر ، وله نظائر كثيرة . وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك لكنه ذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليرتب عليه قوله وتخفي في نفسك ما الله مبديه . والمقصود بهذا الاعتبار بتقدير الله الأسباب لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه ، ولذلك قال عقبه :

فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها إلى قوله وكان أمر الله مفعولا وقوله وكان أمر الله قدرا مقدورا .

وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبني ودحض ما بناه المنافقون على أساسه الباطل ، بناء على كفر المنافقين الذين غمزوا مغامز في قضية تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا : تزوج حليلة ابنه وقد نهى عن تزوج حلائل الأبناء . ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله هو الذي يصلي عليكم الآية . وبالإعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم .

وزيد هو المعني بقوله تعالى للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ، فالله أنعم عليه بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسر دخوله في ملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرسول - عليه الصلاة والسلام - أنعم عليه بالعتق والتبني والمحبة ، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله فلما قضى زيد منها وطرا وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من كلب بن وبرة وبنو كلب من تغلب . كانت خيل من بني القين بن جسر أغاروا على أبيات من بني معن خرجت به من طيء ، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني معن خرجت به إلى قومها تزورهم فسبقته الخيل المغيرة وباعوه في سوق حباشة بضم الحاء المهملة بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهبته خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد يومئذ ابن ثمان سنين وذلك قبل البعثة ، فحج ناس من كلب فرأوا زيدا [ ص: 30 ] بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند من هو ، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكلما النبي - صلى الله عليه وسلم - في فدائه فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهما فعرفهما ، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام - : اخترني أو اخترهما . قال زيد : ما أنا بالذي اختار عليك أحدا فانصرف أبوه وعمه وطابت أنفسهما ببقائه ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك أخرجه إلى الحجر وقال : يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه فصار ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم التبني بالجاهلية وكان يدعى : زيد بن محمد .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجه أم أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجه زينب بنت جحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب وهو يومئذ بمكة . ثم بعد الهجرة آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبني بقوله تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم صار يدعى : حب رسول الله . وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلقها ، وتزوج درة بنت أبي لهب ، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير .

وشهد زيد بدرا والمغازي كلها . وقتل في غزوة مؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسون سنة .

وزوج زيد المذكورة في الآية هي زينب بنت جحش الأسدية وكان اسمها برة فلما تزوجها النبيء - صلى الله عليه وسلم - سماها زينب ، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفا لآل عبد شمس بمكة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلقها بالمدينة ، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس ، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة ، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة ، أي سنة عشرين قبل البعثة .

والإتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى يجادلنا في قوم لوط وقوله ويصنع الفلك وفي ذلك تصوير لحث [ ص: 31 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - زيدا إلى إمساك زوجه وأن لا يطلقها ، ومعاودته عليه .

والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العلم الذي يأتي في قوله فلما قضى زيد لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي وأنعمت عليه من تنزه النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه ، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي وأنعمت عليه لأن المقصود منها أن زيدا أخص الناس به ، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أحرص على صلاحه ، وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به ، وأما صلة أنعم الله عليه فهي توطئة للثانية .

واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة : أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له ؛ فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلت عليه بسؤددها وغضت منه بولايته فلما تكرر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يعلم رسول الله بعزمه على ذلك ؛ لأنه تزوجها من عنده .

وروي عن علي زين العابدين : أن الله أوحى إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه سينكح زينب بنت جحش . وعن الزهري : نزل جبريل على النبيء - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أن الله زوجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه . وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري ، وأبي بكر بن العربي .

والظاهر عندي : أن ذلك كان في الرؤيا كما أري أنه قال لعائشة أتاني بك الملك في المنام في سرقة من حرير يقول لي : هذه امرأتك فاكشف فإذا هي أنت فأقول : إن يكن هذا من عند الله يمضه .

فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد أمسك عليك زوجك توفية بحق النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير ، لا أمر تشريع ؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة ، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجا له لأن علم النبيء بما سيكون لا يقتضي إجراءه وإرشاده أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن أبا [ ص: 32 ] جهل مثلا لا يؤمن ولم يمنعه ذلك أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة ، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمل الناس عليه ، كما كان يرغب أن يقوم أحد يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائبا .

ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصيانا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه . ولا يلزم أحدا المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها لو راجعته ؟ فقالت : يا رسول الله تأمرني ؟ قال : لا إنما أنا أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه .

وقوله ( أمسك عليك زوجك ) يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيد مستشيرا في فراق زوجه ، أو معلما بعزمه على فراقها .

( وأمسك عليك ) معناه : لازم عشرتها ، فالإمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيها للصاحب بالشيء الممسك باليد .

وزيادة ( عليك ) لدلالة ( على ) على الملازمة والتمكن مثل أولئك على هدى من ربهم أو لتضمن ( أمسك ) معنى احبس ، أي ابق في بيتك زوجك ، وأمره بتقوى الله تابع للإشارة بإمساكها ، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحد عن واجب حسن المعاشرة ، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى فإمساك بمعروف .

وجملة وتخفي في نفسك ما الله مبديه عطف على جملة ( تقول ) . والإتيان بالفعل المضارع في قوله وتخفي للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره . والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيدا يطلقها ، وذلك سر بينه وبين ربه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة من علمه حتى يبلغوه ، ألا ترى أنه لم يعلم عائشة ولا أباها برؤيا إتيان الملك بها في سرقة حرير إلا بعد أن تزوجها .

فماصدق ( ما في نفسك ) هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله [ ص: 33 ] لأن الله أبدى ذلك في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها ، ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ، ولم يبد الله شيئا غير ذلك ، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمر يصلح للإظهار في الخارج ، أي يكون من الصور المحسوسة .

وليست جملة وتخفي في نفسك حالا من الضمير في ( تقول ) كما جعله في الكشاف لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاما يخالف ما هو مخفي في نفسه ولا يستقيم له معنى . إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة ، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد ، وقد استشعر هذا صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : فماذا أراد الله منه أن يقول حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل فإني أريد نكاحها . قلت : كان الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك ، أو يقول أنت أعلم بشأنك ، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته اهـ - . وهو بناء على أساس كونه عتابا وفيه وهن .

وجملة وتخشى الناس عطف على جملة وتخفي في نفسك ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه .

والخشية هنا : كراهية ما يرجف به المنافقون ، والكراهة من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخاف أحدا من ظهور تزوجه بزينب ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعد ؛ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما كان منهم في قضية الإفك ، ولم تكن خشية تبلغ به مبلغ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد ، ولكنها استشعار في النفس ، وتقدير لما سيرجفه المنافقون .

والتعريف في ( الناس ) للعهد ، أي تخشى المنافقين ، أي يؤذوك بأقوالهم .

وجملة والله أحق أن تخشاه معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس ، والواو اعتراضية وليست واو الحال ؛ فمعنى الآية معنى قوله تعالى فلا تخشوا الناس [ ص: 34 ] واخشون . وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيرا من المفسرين على جعل الكلام عتابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

و ( أحق ) اسم تفضيل مسلوب المفاضلة فهو بمعنى حقيق ، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله ولا ما يفيد تعارضا بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس ، والمعنى : والله حقيق بأن تخشاه .

وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله لأن الله لم يكلفه شيئا فعمل بخلافه .

وبهذا تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل إلا ما يرضي الله ، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيدا بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترضه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينب فأسرعا خطاهما فقال : " على رسلكما إنما هي زينب " فكبر ذلك عليهما وقالا : سبحان الله يا رسول الله . فقال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، خشيت أن يقذف في قلوبكما " .

فمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستان يحوي أصنافا من المرضى إذا رأى طعاما يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه .

وليس في قوله وتخشى الناس عتاب ولا لوم ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين . وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس في سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء عن طاعة ربهم كما قال تعالى ما كان على النبيء من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ ص: 35 ] وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين وعلى نحو قوله لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك .

وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة ، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة ، فلا تصغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمر زيدا بإمساك زوجه فإن ذلك من مختلقات القصاصين ، فإما أن يكون ذلك اختلافا من القصاصين لتزيين القصة ، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم ، فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به . ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثرا مسندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونساءهم ولكنها قصص وأخبار وقيل وقال .

ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزت كثيرا من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب . وقد تصدى أبو بكر بن العربي في الأحكام لوهن أسانيدها وكذلك عياض في الشفاء .

والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد . ومجموع القصة من ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بيت زيد يسأل عنه ، فرأى زينب ، وقيل : رفعت الريح ستار البيت فرأى النبي - عليه الصلاة والسلام - زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبح لله ، وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان ، وأن زيدا علم ذلك ، وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال له : أمسك عليك زوجك وهو يود طلاقها في قلبه ، ويعلم أنها صائرة زوجا له .

وعلى تفاوت أسانيده في الوهن ، ألقي إلى الناس في القصة ، فانتقل غثه وسمينه ، وتحمل خفه ورزينه ، فأخذ منه كل ما وسعه فهمه ودينه . ولو كان كله واقعا لما كان فيه مغمز في مقام النبوة .

[ ص: 36 ] فأما رؤيتة زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد ، فإن الاستئذان واجب ، فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ، ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكن يسترن وجوههن ، قال تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي الوجه والكفين ، وزيد كان من أشد الناس اتصالا بالنبي ، وزينب كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومتبناه ، فكانت مختلطة بأهله ، وهو الذي زوجها زيدا ، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد ، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل ، فكذلك لا عجب فيه لأن رؤية الفجأة لا مؤاخذة عليها ، وحصول الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه ، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة ؛ إذا لم يتبعه النظار نظرة .

وأما ما خطر في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل ; ؛ لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه ، وقد علمت أن قوله وتخشى الناس ليس بلوم ، وأن قوله والله أحق أن تخشاه ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس .

وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس وخور العزائم ، وكفاك دليلا على تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المقام وهو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيدا في إمساك زوجه مشيرا عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارة ونصحا لا أمرا وشرعا .

ولو صح أن زيدا علم مودة النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي - عليه الصلاة والسلام - ولا التماس لما كان عجبا ؛ فإنهم كانوا يؤثرون النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم ، وقد تنازل له دحية الكلبي عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر ، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 37 ] بينهما .

وأما إشارة النبي - عليه الصلاة والسلام - على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة ، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحة وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل . والتخليط بين الحالتين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم الله في الباطن ، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث . وليس هذا من خائنة الأعين ، كما توهمه من لا يحسن ؛ لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد .

وليس هو أيضا من الكذب لأن قول النبيء - عليه الصلاة والسلام - لزيد أمسك عليك زوجك واتق الله لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما يناقضه لو قال : إني أحب أن تمسك زوجك ، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار . ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير ، وإن كان صلاح المشير في خلافه فضلا على كون ما في هذه القصة ؛ إنما هو تخالف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثر .

فإن قلت : فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك الآية .

قلت : أرادت أن رغبة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سرا في نفسه لم يطلع عليه أحد إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد ، وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد في قوله أمسك عليك زوجك . فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء ، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خبره بلغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة فلو كان كاتما لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربه تعالى ، ولكنه لما كان وحيا بلغه ؛ لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه .

واعلم أن للحقائق نصابها ، وللتصرفات موانعها وأسبابها ، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد ، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد ، فإذا تفشت أحوال في [ ص: 38 ] عاداتهم استحسنوها ولو ساءت ، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت ، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها ، والمباعدة بين الحقائق وشرعها .

ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها ، وينزلها من صياصيها ، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه ، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية