الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 354 ] وجهة نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا وجهة نظر ، وإن كنت لم أقف على قول فيها ، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ; بأن يكون القبر أولا ثم يتخذ عليه المسجد . كما جاء في قصة أصحاب الكهف : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا أي : أن القبر أولا والمسجد ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                      أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك ، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانيا ، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ناحية أخرى ، لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور ، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة ، أي : بما فيها ، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن : أنه ما سجد إليه من قريب .

                                                                                                                                                                                                                                      وعليه فما من مصل يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر . ولا يعتبر مصليا إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه ، وإن كان البعد نسبيا . فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة ، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها ، والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا لابن تيمية - رحمه الله - كلام في ذلك ملخصه من المجموع : مجلد 27 ص 323 وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ودفن في حجرة عائشة - رضي الله عنها - ، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه ، لم يكن شيء من ذلك داخلا المسجد . واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته ، وسع المسجد ، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة . فإن الوليد كتب إلى نائبه - عمر بن عبد العزيز - : أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهن كن توفين كلهن - رضي الله عنهن - ، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد ، فهدمها وأدخلها في المسجد ، وبقيت حجرة عائشة على حالها . وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ، ولا لدعاء ، ولا غير ذلك . إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في صفحة 328 : ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه [ ص: 355 ] وبعدها كانت مغلقة ، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      فكل ذلك صيانة له - صلى الله عليه وسلم - ، أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا . وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم ، وكلهم معظمون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم ; بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد . ولا يتخذ بيته عيدا ، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث ، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم ، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله ، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها ، أي : تلك المسافة محراب كبير ، وهذا كان في المسجد سابقا ، أي : قبل الشبك . مما يدل على بعد ما بين المصلي في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة ، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة . والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ختام هذه المسألة ، وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 1394 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول :

                                                                                                                                                                                                                                      لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال . أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير ، ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرنا ، فلا مجال للقول إذا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ناحية أخرى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت على ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو موضوع بناء الكعبة ، وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ، ولها باب واحد ، ومرتفع عن الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان باستطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد بناءها على الوجه الأصح ، فتستوعب قواعد إبراهيم ، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض . ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك ; لاعتبارات بينها في حديثعائشة - رضي الله عنها - .

                                                                                                                                                                                                                                      ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وما وسع السلف - رحمهم الله - في عين الحجرة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 356 ] ومن ناحية ثالثة : لو أنه أخذ بقولهم ، فأخرجت من المسجد ، أي : جعل المسجد من دونها على الأصل الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم جاء آخرون ، وقالوا : نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد - رحمهما الله - في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير ، وأعادها الحجاج ، وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير ، فقال له مالك - رحمه الله - : لا تفعل ; لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك . فيقال : هنا أيضا فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج . وفيه من الفتنة ما فيه . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية