الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 1237 ] كل ما وقع فيه الخلاف يحتكم فيه إلى الكتاب والسنة .

      ( وكل ما فيه الخلاف ) بين الصحابة فمن بعدهم ( نصب ) من فروع العبادات والمعاملات ( فرده ) أي المختلف فيه من ذلك ( إليهما ) أي إلى الكتاب والسنة ، ( قد وجب ) على المعتبر ، قال الله تبارك وتعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ( النساء 59 ) والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه ، وإلى الرسول إلى سنته بعد انقطاع الوحي ، فما وافقهما قبل وما خالفهما رد على قائله كائنا من كان ، ( فالدين ) الإسلام وشرائعه ( إنما أتى ) حصل بيانه ( بالنقل ) عن الله ورسوله ( ليس ) هو ( بالأوهام ) من آحاد الأمة ( وحدس ) تخمين ( العقل ) قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرجح الخلائق عقلا ، وأولاهم بكل صواب : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( النساء 105 ) الآيات ، ولم يقل بما رأيت .

      ويقول الله تعالى له : ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء 36 ) وقال تعالى له : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ( الزخرف 43 ) وأمثال هذا من الآيات ما لا يحصى .

      وتقدم في الأحاديث جملة واحدة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم لا يقول في التشريع إلا عن الله عز وجل ، ولهذا لم يجب اليهود في سؤالهم إياه عن الروح ، ولا جابرا في سؤاله عن ميراث الكلالة ، والمجادلة في سؤالها عن حكم الظهار حتى نزل عليه القرآن بتفصيل ذلك وبيانه ، وأمثال هذا كثيرة : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( الفرقان 33 ) وفي قصة عمر - رضي الله عنه - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قال : فعملت لذلك أعمالا .

      [ ص: 1238 ] وقال عثمان بن حنيف : اتهموا الرأي في دينكم ، لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته .

      وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي ، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفه .

      وأفتى عمر السائل الثقفي في المرأة التي حاضت بعد أن زارت البيت يوم النحر أن لا تنفر ، فقال له الثقفي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به ، فقام إليه عمر يضربه بالدرة ، ويقول له : لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .

      وكان ابن مسعود أفتى بأشياء فأخبره بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه ، فانطلق عبد الله إلى الذين أفتاهم فأخبرهم أنه ليس كذلك .

      وقال عمر بن عبد العزيز : لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . والآثار في هذا عن الصحابة والتابعين لا تحصى .

      وقال الشافعي رحمه الله تعالى : أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس .

      وصح عنه أنه قال : لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

      وقال رحمه الله : إذا وجدتم في كتابي [ ص: 1239 ] خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت . وفي لفظ : فاضربوا بقولي عرض الحائط .

      وقال رحمه الله : إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي ، فخذوا بالسنة ، ودعوا قولي فإني أقول بها .

      وقال رحمه الله تعالى : كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي .

      وقال رحمه الله تعالى وروى حديثا فقال له رجل : تأخذ بهذا يا أبا عبد الله ؟ فقال : متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا ، فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب ، وأشار بيده على رءوسهم . وسأله رجل عن مسألة فأفتاه ، وقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا ، فقال الرجل : أتقول بهذا ؟ قال : أرأيت في وسطي زنارا ؟ أتراني خرجت من الكنيسة ؟ أقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي : أقول بهذا ! أروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به ! وفي لفظ : فارتعد الشافعي رحمه الله واصفر لونه وقال : ويحك ، أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به ، نعم على الرأس والعينين . وقال رحمه الله تعالى : ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه ، فمهما قلت من قول ، وأصلت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو قولي ، وجعل يردد هذا الكلام .

      وقال الشافعي - رحمه الله - أيضا : لم أسمع أحدا نسبته العامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه ، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا ، [ ص: 1240 ] وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه .

      وقال الربيع : سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام ، وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة ، فقال : جائز ، وأحبه ، ولا أكرهه ; لثبوت السنة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والأخبار عن غير واحد من الصحابة ، فقلت : وما حجتك فيه ؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ، ثم قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم قال : قال عمر - رضي الله عنه : من رمى الجمرة ، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب . فقال سالم : وقالت عائشة رضي الله عنها : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي . وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع .

      قال : وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم ، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك لغير شيء ، بل لرأي أنفسكم ، فالعلم إذا إليكم تأتون منه ما شئتم ، وتدعون ما شئتم ، وقال رحمه الله تعالى : من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته ، ومن خلط فتركها خالفته . صاحبي الذي لا أفارق الملازم الثابت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بعد ، والذي أفارق هو من لم يقل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرب .

      وقال رحمه الله تعالى في خطبة كتاب ( إبطال الاستحسان ) : الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله ، وكما ينبغي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فهدى بكتابه ثم على لسان رسوله ، ثم أنعم عليه ، وأقام الحجة على خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقال : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ( النحل 89 ) وقال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل 44 ) وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ( الأحزاب 36 ) [ ص: 1241 ] فاعلم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لهم إلا اتباعه ، وكذلك قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ( الشورى 52 53 ) مع ما علم نبيه ، ثم فرض اتباع كتابه فقال : فاستمسك بالذي أوحي إليك ( الزخرف 43 ) وقال : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ( المائدة 49 ) وأعلمهم أنه كمل لهم دينهم فقال عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة 3 ) . . . إلى أن قال : ثم من عليهم بما آتاهم من العلم ، فأمرهم بالاقتصار عليه ، وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم ، فقال لنبيه : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ( الشورى 52 ) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ( الأحقاف 9 ) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( الكهف 23 ) ثم أنزل على نبيه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ورضوانه عنه ، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء 36 ) وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل في امرأة رجل رماها بالزنا ، فقال له يرجع ، فأوحى الله إليه آية اللعان ، فلاعن بينهما ، وقال : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ( النمل 65 ) وقال : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ( لقمان 34 ) الآية ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها ( النازعات 42 ) فحجب عن نبيه علم الساعة ، وكان من عادى ملائكة الله المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد الله أقصر علما من ملائكته وأنبيائه ، والله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه ، ولم يجعل لهم من الأمر شيئا .

      وكلامه - رحمه الله تعالى في هذا الباب كثير مشهور مذكور .

      وهذا الذي قاله من تحكيم نصوص الكتاب والسنة ، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به ، وصرحت [ ص: 1242 ] به نصوصهما ، وأجمع عليه الصحابة والتابعون ، فمن بعدهم ، كما حكي إجماعهم هو وغيره ، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال . ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا ، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرءوا منهم ، ومقتوهم أشد المقت ; فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه ، ولا اهتدوا إلى ما أرشدهم إليه ، بل اختلفوا اختلافا شديدا ، وافترقوا افتراقا بعيدا ، وكل منهم يحصر الحق في إمامه ، ويرى ما خالفه باطلا ، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا ، وإذا خالف مذهبه ضرب له الأمثال ، وتكلف له التأويل المحال ، ويقابله الآخر بمثل ذلك ، فهم بين راد ومردود ، وحاسد ومحسود ، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم : من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( الروم 32 ) ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب ، بل كانوا - رضي الله عنهم وأرضاهم - أجل شأنا ، وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله ، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه ، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال ، وهي أجل قدرا في صدورهم من أن تضرب لها الأمثال ، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال ، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم ، واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم ، وأحيا سنتهم في طلب الحق ، وأخذه أين وجده ، والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما بلغته ، فكما كان اجتهاد السلف - رحمهم الله - في جميع الأدلة ، واستنباط الأحكام منها ، فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات ، والأخذ بالأصح منها مع من كان ، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف ، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا ، إن أصابه فله أجران ، وإن أخطأه فله أجر ، والخطأ مغفور ، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم ، كلها تذم الرأي في الدين ، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان . ولم يدع أحد منهم إلى تقليده ، ولم يكن أحد منهم معصوما ، ولا ادعى في ذلك ، ولا قال : إن الحق معي لا يفارقني ، فتمسكوا بما أقول وأفعل ، ولا كان لأحد منهم التزام قول أحد من آحاد الأمة لا [ ص: 1243 ] ممن هو مثلهم ، ولا من هو أفضل منهم ، فضلا عمن هو دونهم ، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره ، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه ، بل كان إمام الجميع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين للناس ما نزل إليهم ، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال ، والتقريرات يتلقونها من حفاظها من كانوا ، وأين كانوا ، وبيد من وجدوها ، وقفوا عندها ، ولم يعدوها إلى غيرها ، وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم ، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتوافق النصوص بعضها بعضا ، ويصدق بعضها بعضا ، فإنها كلها من عند الله ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض ، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره ، قال الله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( النساء : 82 ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية