الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 522 ] الباب السابع

                                                                                                                في المترتبات على الإفطار

                                                                                                                وهي سبعة أحكام :

                                                                                                                الحكم الأول : الإمساك تشبيها بالصائمين ، وفي الجواهر : هو واجب على كل متعمد بالإفطار في شهر رمضان ، أو ظان الإباحة مع عدمها ، وغير واجب على من أبيح له إباحة حقيقية كالمريض يصح ، والمسافر يقدم ، والحائض تطهر في بقية النهار ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : يجب قياسا على قيام البينة على رؤية الهلال .

                                                                                                                وجوابه : أن الأداء هاهنا معلوم في البعض ، وتعلق الوجوب بالبعض الآخر محال ، والخطاب ثمة متعلق بالكل ، فيشترط الثبوت وقد ثبت فيجب ، ومن أصبح يوم الشك مفطرا ثم تبين أنه من رمضان أمسك ولم يحك خلافا ، وفي الجلاب : إذا شهد على رمضان نهارا وجب الكف والقضاء ، وظاهر التلقين متعارض غير أن نقل الخلاف أصرح ، ثم قال في الجواهر : أما الصبا والجنون والكفر إذا زالت لا يجب الإمساك ، وقيل : يجب في الكفر ، وظاهر المدونة ما نقله ابن الجلاب ، قال سند : فلو أسلم الكافر ، قال مالك : يمسك ; لكونه مخاطبا بفروع الشرع خلافا لأشهب ، ولو بلغ الصبي بقي على حاله صائما أو مفطرا ، ولو أفطر البالغ لعطش أباح له سحنون الأكل ، ومنع ابن حبيب ، وفرق بأن عذره يقتضي [ ص: 523 ] إفطاره ساعة بخلاف غيره . ومنع بعض أصحابنا من وطء المسافر امرأته الطاهرة النصرانية ; لأنها مخاطبة بالصوم .

                                                                                                                الحكم الثاني : القضاء ، وفي الجواهر : يجب قضاء رمضان على كل مفسد للصوم أو تارك له بسفر أو مرض أو حيض أو إغماء أو سهو أو جنون ، وقيل في الجنون : ما لم تكثر السنون ، وقيل : ما لم يبلغ مجنونا ، ولا يجب بالصبا أو الكفر أو عجز من الكبر ، ولا يجب التتابع فيه : ويستحب إذا شرع في قضاء يوم وجب عليه إتمامه وإن لم يكن على . . . فإن أفطر متعمدا وجب قضاء الأصل ، وفي قضاء القضاء قولان ، والأصل في هذا قوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . أو يقال : فرؤية الهلال سبب للوجوب ، والأصل عدم الخروج عن عهدته إلا ما دل عليه الدليل ، ويجب القضاء بالنذر بالإفطار عمدا أو نسيانا ، ومع العذر إن كان غير معين ، وإن كان معينا فقيل كذلك ، وقيل : لا يجب مع العذر دون النسيان ، وقيل : يجب إن كان المقصود اليوم لمعنى فيه ، وعليه يخرج الخلاف في ناذر صوم يوم يقدم فلان فقدم نهارا ، ففي الكتاب سقوطه خلافا لأشهب ، وفي الكتاب : يقضي في عشر ذي الحجة ، قال سند : جملة السنة وقت له إلا الفطر والنحر وأيام التشريق ، واستحب عمر - رضي الله عنه - قضاءه من العشر . وفي أبي داود قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله في هذه الأيام " يعني أيام العشر فإن قضى في يوم النحر لم يجزه ; لأن النهي دليل الفساد ، وكذلك أيام النحر الثلاثة ، وفيها الخلاف المتقدم في الشروط ، ولا يبتدئ القضاء في الرابع ، وفيه خلاف وهو أخف من الثلاثة ، ويجوز تأخيره إلى شعبان ويحرم بعده ; لقول عائشة - رضي الله عنها - : إن كانت إحدانا لتفطر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر أن تقضيه مع الشغل به - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان .

                                                                                                                [ ص: 524 ] قال اللخمي : إذا لم يبق من شعبان إلا ما يسع التمتع وقضاء رمضان صام القضاء تغليبا لأصله ، فإن وسعهما بدأ بالتمتع عند مالك في الكتاب ، وخيره أشهب ، ويكره التطوع قبله عند مالك ، ووسع فيه ابن حبيب .

                                                                                                                وإن مات ، وعليه صيام لم يصم عنه أحد - وصى به أم لا عند مالك و ( ح ) ، ومشهور ( ش ) ، خلافا لابن حنبل في النذر ، وفي مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - : " من مات وعليه صوم صام عنه وليه " .

                                                                                                                وجوابه : صرفه عن ظاهره ; لقوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) . فيحمل على أن يفعل ما ينوب مناب الصوم من الصدقة والدعاء ، وفي الموطأ : كان ابن عمر - رضي الله عنه - يقول : لا يصوم أحد عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وقياسا على الجهاد والصلاة في حالة الحياة .

                                                                                                                قال ابن القاسم : إن شرع في قضاء يوم ، ثم تبين له أنه قضاه لا يجوز له فطره ; لأن أقل أحواله أن يكون نفلا ، وقال أشهب : لا أحبه ، فإن فعل فلا شيء عليه . وفي الكتاب : إن أكل في يوم القضاء أحب إلي إتمامه ويجوز فطره ، قال سند : وإن أكل فيه عامدا لم يستحب له الإمساك ، وكذلك النذر المطلق ; لأن الإمساك لحرمة الوقت .

                                                                                                                الحكم الثالث : الإطعام ، وفي الجواهر : لوجوبه ثلاثة أسباب : فوات فضيلة الوقت كالحامل والمرضع ، وبدل من الصوم كالشيخ والعاجز ، وتأخير القضاء عن وقته مع الإمكان ، وفي الكتاب : من فرط في القضاء وأوصى أن يطعم عنه مد لكل يوم ، مقدم عن الوصايا لوجوبه ، مؤخر عن الزكاة ; لأنها مجمع عليها ، ولم يقف وجوبها على تبيين من المكلف ، قال سند : إن مات قبل التمكن من القضاء ، أو تمكن ومات في السنة فلا إطعام خلافا ل ( ش ) في القسم الثاني ، [ ص: 525 ] محتجا بقوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين ) . وهذا مطيق .

                                                                                                                وجوابه : أنه في صوم رمضان لا في قضائه سلمناه ، لكن الإطعام كفارة لترك الواجب ، ولا يتعين إلا بخروج جملة الوقت ، قال : فإن مضى من شعبان يوم ترتب إطعام يوم ، فإن مرض في بقية شعبان لم يجب عليه غير ذلك ، فإن صح أياما وجب عليه بعددها ، وقاله ( ش ) وابن حنبل ، وقال ( ح ) : لا يجب ; لقوله تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) - من غير تقييد فيعم العمر لا تقييده بالسنة ، لكن خروجها يقتضي [ بقاء ] صيامه في الذمة كالصلاة بعد الوقت لا غير .

                                                                                                                وجوابه : أن ابن عمر وابن عباس ، وأبا هريرة - رضي الله عنهم - كانوا يقولون بذلك من غير نكير ، فكان إجماعا وقياسا على المرضع والشيخ عندنا إذا أخره سنين لم تجب إلا كفارة واحدة ، خلافا لبعض الشافعية قياسا على كفارة الإفساد .

                                                                                                                ويقدم الإطعام على النذر ; لأن سببه مقدم في الشرع ، ويؤخر عن كفارة . . . ; لأنه مسبب عن القضاء وهي عن الأداء . و . . . إفطارا بموضع مقدم عليه لذلك ، وهو وهادي المتعة سواء ، فإن لم يوص به لا يلزم الورثة ، خلافا ل ( ش ) وإحدى الروايتين عن مالك ، وأنكرها ابن أبي زيد ; لأنه قد يخرجه ولا يعلمون ، أو يحمله أحد عنه ; لأنه مفتقر إلى النية ولم ينو ، والإطعام مد ، ومد العيش كسائر الكفارات ، وقال أشهب : يخرج في غير المدونة مدا ، قال الباجي : هو استحباب ، ويطعم عند ابن القاسم في الكتاب مع القضاء - كالهدي مع حج القضاء ، وقال أشهب : لا تقييد لتحقق سببه ، وإذا فرعنا على الثاني وأطعم لليوم الأول مسكينا ، ثم فرط الثاني من شعبان فلم يصمه ، جاز له [ ص: 526 ] أن يطعم المسكين الأول ; لأنه سبب طرأ بعد الفراغ من الأول ، فإن لم يكفر عن الأول [ لم يجز ] الدفع له على الاختلاف في اجتماع الكفارات ، فلو عزم على التأخير فأطعم قبله لم يجزه عند أشهب لعدم السبب .

                                                                                                                الحكم الرابع في الكفارة ، وفي الجواهر : اختلف الأصحاب : هل هي متنوعة ؟ - وهو الصحيح ، أو مختصة بالإطعام ; لقوله في الكتاب : لا يعرف مالك غير الإطعام ؟ قال صاحب التنبيهات : وهذا التأويل خلاف الإجماع ، بل ذلك محمول على الأفضل .

                                                                                                                النوع الأول : عتق رقبة مؤمنة كاملة غير ملفقة سليمة من الاستحقاق بوجه .

                                                                                                                النوع الثاني : صوم شهرين متتابعين ; لأن التتابع وقع في بعض روايات الحديث ، وقياسا على كفارة القتل .

                                                                                                                النوع الثالث : إطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد بمده - صلى الله عليه وسلم - . وخير أشهب بينه وبين الغداء والعشاء . وإذا فرعنا على المشهور فالإطعام يعمها للحديث السابق في خبرها ، وقيل : يختص بغير الجماع ; لأن العتق والصيام وردا في الجماع فيختص بهما ، والإطعام إنما ورد في المطيق للآية ، والإطعام أفضل على المشهور لعموم نفعه لا سيما في الشدائد ، وقيل : العتق أفضل ، وقال المتأخرون : يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، وتستقر الكفارة في الذمة عند العجز .

                                                                                                                وقال مالك : هي على التخيير ; لأن الحديث رواه أبو هريرة بصيغة أو - وهي للتخيير ، وقياسا على كفارة اليمين ، وقالت الأئمة على الترتيب ، وهو أحد القولين عندنا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - في مسلم لم يوجب عليه خصلة إلا بعد أن . . . وقياسا على كفارة القتل والظهار .

                                                                                                                وجوابه : أن الذي في الحديث استفهام وليس بشرط ، وفي الجلاب : إذا أطعم ثلاثين مسكينا مدين مدين في يوم عن كفارة ، جاز أن يطعمهم في يوم آخر [ ص: 527 ] عن كفارة أخرى .

                                                                                                                سؤال : المقصود من الإطعام هو أحد الجانبين وسد خلة المساكين ، وهما حاصلان بإطعام مسكين ذلك الطعام في ستين يوما لسد ستين خلة ، فما الفرق ؟

                                                                                                                جوابه : أن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي أو أولياء لله تعالى فيكون إطعامهم أفضل ، ولأنه يرجى من دعائهم ما لا يرجى من دعاء الواحد ، أصله الصلاة على الجنازة ، ولذلك أوجب ( ش ) في الزكاة الدفع للأصناف .

                                                                                                                وقال اللخمي : يقتضي المذهب الإجبار على الكفارة ، ولا توكل إلى الأمانة ; فمن ادعى إسقاطها لجهل أو تأويل لا يصدق ، إلا أن يأتي بما يشبه ، وقال . . . القياس هي موكولة إلى الأمانة .

                                                                                                                الحكم الخامس : قال سند : قال مالك : العقوبة لمن تعمد الإفساد إن ظهر عليه ولم يأت مستفتيا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب السائل ، وكيلا يمتنع الناس عن الاستفتاء .

                                                                                                                الحكم السادس : في الجواهر : قطع التتابع فيما يشترط فيه ، فإن أفطر فيه لغير عذر أو عذر يمكنه دفعه كالسفر ، فأما ما لا يمكنه من سهو أو مرض أو عدة أو حيض فلا ، وفي الجلاب : إن تعمد صيام ذي الحجة مع علمه بأيام التشريق لم يجزه ، وإن جهل أفطر وبنى ، ويستحب له الابتداء ، ولو صام شعبان ورمضان لكفارته وفرضه قضى ثلاثة أشهر .

                                                                                                                الحكم السابع : قطع النية الحكمية ، وفي الجواهر : تنقطع بإفساد الصوم أو تركه على الإطلاق ، ولعذر أو لغير عذر ، أو بزوال التحتم كالسفر والمرض .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية