الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما ركن العقد فالإيجاب والقبول ، وذلك بألفاظ تدل عليهما فالإيجاب هو لفظ المضاربة والمقارضة والمعاملة ، وما يؤدي معاني هذه الألفاظ ، بأن يقول رب المال : خذ هذا المال مضاربة ، على أن ما رزق الله عز وجل [ ص: 80 ] أو أطعم الله تعالى منه من ربح ، فهو بيننا على كذا من نصف أو ربع أو ثلث أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة ، وكذا إذا قال : مقارضة أو : معاملة ويقول المضارب : أخذت أو : رضيت أو : قبلت ونحو ذلك فيتم الركن بينهما ، أما لفظ المضاربة فصريح مأخوذ من الضرب في الأرض ، وهو السير فيها ، سمي هذا العقد مضاربة ; لأن المضارب يسير في الأرض ويسعى فيها لابتغاء الفضل .

                                                                                                                                وكذا لفظ المقارضة صريح في عرف أهل المدينة ; لأنهم يسمون المضاربة مقارضة كما يسمون الإجارة بيعا ، ولأن المقارضة مأخوذة من القرض ، وهو القطع ، سميت المضاربة مقارضة لما أن رب المال يقطع يده عن رأس المال ويجعله في يد المضارب ، والمعاملة لفظ يشتمل على البيع والشراء ، وهذا معنى هذا العقد ، ولو قال : خذ هذا المال واعمل به على أن ما رزق الله عز وجل من شيء فهو بيننا على كذا ولم يزد على هذافهو جائز ; لأنه أتى بلفظ يؤدي معنى هذا العقد ، والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ ، حتى ينعقد البيع بلفظ التمليك بلا خلاف ، وينعقد النكاح بلفظ البيع والهبة والتمليك عندنا وذكر في الأصل لو قال : خذ هذه الألف فابتع بها متاعا ، فما كان من فضل فلك النصف ولم يزد على هذا فقبل هذا كان مضاربة استحسانا ، والقياس أن لا يكون مضاربة .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أنه ذكر الشراء ولم يذكر البيع ، ولا يتحقق معنى المضاربة إلا بالشراء والبيع .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أنه ذكر الفضل ، ولا يحصل الفضل إلا بالشراء والبيع ، فكان ذكر الابتياع ذكرا للبيع ، وهذا معنى المضاربة ولو قال : خذ هذه الألف بالنصف ولم يزد عليه كان مضاربة استحسانا ، والقياس أن لا يكون ; لأنه لم يذكر الشراء والبيع فلا يتحقق معنى المضاربة .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أنه لما ذكر الأخذ ، والأخذ ليس عملا يستحق به العوض ، وإنما يستحق بالعمل في المأخوذ وهو الشراء والبيع ، فتضمن ذكره ذكر الشراء والبيع ولو قال : خذ هذا المال فاشتر به هرويا بالنصف أو رقيقا بالنصف ولم يزد على هذا شيئا ، فاشترى كما أمره فهذا فاسد .

                                                                                                                                وللمشتري أجر مثل عمله فيما اشترى ، وليس له أن يبيع ما اشترى إلا بأمر رب المال ; لأنه ذكر الشراء ولم يذكر البيع ، ولا ذكر ما يوجب ذكر البيع ; ليحمل على المضاربة ، فحمل على الاستئجار على الشراء بأجر مجهول ، وذلك فاسد ، فإذا اشترى كما أمره فالمستأجر استوفى منافعه بعقد فاسد ، فاستحق أجر مثل عمله ، وليس له أن يبيع ما اشترى من غير إذن الآمر ; لأنه أمره بالشراء لا بالبيع فكان المشترى له ، فلا يجوز بيعه من غير إذنه ، فإن باع منه شيئا لا ينفذ بيعه من غير إجازة رب المال ، ويضمن قيمته إن لم يقدر على عينه ; لأنه صار متلفا مال الغير بغير إذنه وإن أجاز رب المال البيع ، والمتاع قائم جاز ، والثمن لرب المال ; لأن عدم الجواز لحقه ، فإذا أجاز فقد زال المانع ، وكذلك لو كان لا يدري أنه قائم أو هالك فأجاز ; لأن الأصل هو بقاء المبيع حتى يعلم هلاكه ، وإنما شرط قيام المبيع ; لأنه شرط صحة الإجازة لما عرف أن ما لا يكون محلا لإنشاء العقد عليه ، لا يكون محلا لإجازة العقد فيه ، وإن علم أنه هلك ، فالإجازة باطلة لما ذكرناه .

                                                                                                                                وروى بشر عن أبي يوسف في رجل دفع إلى رجل ألف درهم ; ليشتري بها ويبيع ، فما ربح فهو بينهما فهذه مضاربة ولا ضمان على المدفوع إليه المال ما لم يخالف ; لأنه لما ذكر الشراء والبيع فقد أتى بمعنى المضاربة ، وكذلك لو شرط عليه أن الوضيعة علي وعليك ، فهذه مضاربة والربح بينهما ، والوضيعة على رب المال ; لأن شرط الوضيعة على المضارب شرط فاسد فيبطل الشرط ، وتبقى المضاربة .

                                                                                                                                وروي عن علي بن الجعد عن أبي يوسف لو أن رجلا دفع إلى رجل ألف درهم ولم يقل : مضاربة ولا بضاعة ، ولا قرضا ولا شركة .

                                                                                                                                وقال : ما ربحت فهو بيننا فهذه مضاربة ; لأن الربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع ، فكان ذكر الربح ذكرا للشراء والبيع ، وهذا معنى المضاربة .

                                                                                                                                ولو قال : خذ هذه الألف على أن لك نصف الربح ، أو ثلثه ولم يزد على هذا فالمضاربة جائزة قياسا واستحسانا ، وللمضارب ما شرط ، وما بقي فلرب المال ، والأصل في جنس هذه المسائل : أن رب المال إنما يستحق الربح ; لأنه نماء ماله لا بالشرط ، فلا يفتقر استحقاقه إلى الشرط ، بدليل أنه إذا فسد الشرط كان جميع الربح له ، والمضارب لا يستحق إلا بالشرط ; لأنه إنما يستحق بمقابلة عمله ، والعمل لا يتقوم إلا بالعقد .

                                                                                                                                إذا عرف هذا ، فنقول في هذه المسألة إذا سمي للمضارب جزءا معلوما من الربح ، فقد وجد في حقه ما يفتقر إلى استحقاقه الربح فيستحقه ، والباقي يستحقه رب المال بماله ، ولو قال : خذ هذا المال [ ص: 81 ] مضاربة على أن لي نصف الربح ولم يزد على هذا فالقياس أن تكون المضاربة فاسدة ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، ولكنها جائزة استحسانا ، ويكون للمضارب النصف .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن رب المال لم يجعل للمضارب شيئا معلوما من الربح ، وإنما سمى لنفسه النصف فقط ، وتسميته لنفسه لغو ; لعدم الحاجة إليها ، فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة ، وإنما الحاجة إلى التسمية في حق المضاربة ، ولم يوجد فلا تصح المضاربة .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن المضاربة تقتضي الشركة في الربح ، فكان تسمية أحد النصفين لنفسه تسمية الباقي للمضارب ، كأنه قال : خذ هذا المال مضاربة على أن لك النصف كما في ميراث الأبوين في قوله سبحانه وتعالى { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } لما كان ميراث الميت لأبويه وقد جعل الله تعالى عز وجل للأم منه الثلث كان ذلك جعل الباقي للأب كذا هذا .

                                                                                                                                ولو قال على أن لي نصف الربح ولك ثلثه ولم يزد على هذا ، فالثلث للمضارب والباقي لرب المال ; لما ذكرنا أن استحقاق المضارب الربح بالشرط ، واستحقاق رب المال لكونه من نماء ماله ، فإذا سلم المشروط للمضارب بالشرط يسلم المسكوت عنه ، وهو الباقي لرب المال ; لكونه من نماء ماله .

                                                                                                                                ولو قال رب المال : على أن ما رزق الله عز وجل فهو بيننا جاز ذلك ، وكان الربح بينهما نصفين ; لأن ( البين ) كلمة قسمة ، والقسمة تقتضي المساواة إذا لم يبين فيها مقدار معلوم قال الله تعالى عز شأنه : { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } وقد فهم منها التساوي في الشرب قال الله سبحانه وتعالى : { هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } هذا إذا شرط جزء من الربح في عقد المضاربة لأحدهما ، إما المضارب وإما رب المال ، وسكت عن الآخر ، فأما إذا شرط لهما ولغيرهما ، بأن شرط فيه الثلث للمضارب ، والثلث لرب المال ، والثلث لثالث سواهما ، فإن كان الثالث أجنبيا ، أو كان ابن المضارب ، وشرط عليه العمل جاز ، وكان الربح بينهم أثلاثا ، وإن لم يشرط عليه العمل لم يجز ، وما شرط له يكون لرب المال ; لأن الربح لا يستحق في المضاربة من غير عمل ولا مال ، وصار المشروط له كالمسكوت عنه وإن كان الثالث عبد المضارب ، فإن كان عليه دين فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله إن شرط عمله ; لأن المضارب لا يملك كسب عبده ، فكان كالأجنبي ، وإن لم يشترط عمله فما شرطه فهو لرب المال لما ذكرنا في الأجنبي

                                                                                                                                وعند أبي يوسف ومحمد : المشروط له يكون للمضارب ; لأن المولى يملك كسبه عندهما ، كما يملك لو لم يكن عليه دين وإن كان الثالث عبد رب المال ، فهو على هذا التفصيل أيضا أنه إن كان عليه دين ، فإن شرط عمله فهو كالأجنبي عند أبي حنيفة ; لأن المولى لا يملك إكسابه ، وإن لم يشترط عمله فما شرط له فهو لرب المال لما قلنا .

                                                                                                                                وعندهما ما شرط له فهو مشروط لمولاه ، عمل أو لم يعمل ; لأن المولى يملك كسب عبده كان عليه دين أو لا فإن لم يكن على العبد دين ففي عبد المضارب الثلثان للمضارب ، والثلث لرب المال ; لأنه إذا لم يكن عليه دين ، فالملك يثبت للمولى ، فكان المشروط له مشروطا للمولى ، وصار كأنه شرط للمضارب الثلثين ، وفي عبد رب المال الثلث للمضارب ، والثلثان لرب المال ; لأن المشروط له يكون مشروطا لمولاه إذا لم يكن عليه دين ، فصار كأن رب المال شرط لنفسه الثلثين ، وعلى هذا قالوا : لو شرط ثلث الربح للمضارب ، والثلث لقضاء دين المضارب ، والثلث لرب المال إن الثلثين للمضارب ، والثلث لرب المال ، وكذا لو شرط ثلث الربح للمضارب ، والثلث لرب المال ، والثلث لقضاء دين رب المال إن الثلثين لرب المال ، والثلث للمضارب ; لأن المشروط لقضاء دين كل واحد منهما مشروط له .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية