الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 191 ] فصل والصلاة على الجنازة بعد الفجر وبعد العصر . قال ابن المنذر : إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد الفجر وبعد العصر وتلك الأنواع الثلاثة لم يختلف فيها قول أحمد أنها تفعل في أوقات النهي ; لأن فيها أحاديث خاصة تدل على جوازها في وقت النهي فلهذا استثناها واستثنى الجنازة في الوقتين لإجماع المسلمين .

                وأما سائر ذوات الأسباب : مثل تحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف ومثل ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة ومثل الصلاة على الجنازة في الأوقات الثلاثة . فاختلف كلامه فيها . والمشهور عنه النهي وهو اختيار كثير من أصحابه : كالخرقي والقاضي وغيرهما وهو مذهب مالك وأبي حنيفة . لكن أبو حنيفة يجوز السجود بعد الفجر والعصر لا واجب عنده .

                والرواية الثانية : جواز جميع ذوات الأسباب وهي اختيار أبي الخطاب وهذا مذهب الشافعي وهو الراجح في هذا الباب لوجوه : [ ص: 192 ] منها : أن تحية المسجد قد ثبت الأمر بها في الصحيحين عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين . قبل أن يجلس } وعنه قال : { دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس قال : فجلست فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس ؟ فقلت : يا رسول الله رأيتك جالسا والناس جلوس قال : فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين } فهذا فيه الأمر بركعتين قبل أن يجلس والنهي عن أن يجلس حتى يركعهما وهو عام في كل وقت عموما محفوظا لم يخص منه صورة بنص ولا إجماع . وحديث النهي قد عرف أنه ليس بعام والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص فإن هذا قد علم أنه ليس بعام بخلاف ذلك فإن المقتضي لعمومه قائم لم يعلم أنه خرج منه شيء .

                الوجه الثاني : ما أخرجا في الصحيحين عن جابر قال : { جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فقال : صليت يا فلان ؟ قال : لا قال : قم فاركع وفي رواية فصل ركعتين } ولمسلم قال : ثم قال : { إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما } وأحمد أخذ بهذا الحديث بلا خلاف عنه هو وسائر فقهاء الحديث . كالشافعي وإسحاق وأبي ثور [ ص: 193 ] وابن المنذر كما روي عن غير واحد من السلف مثل الحسن ومكحول وغيرهما .

                وكثير من العلماء لم يعرفوا هذا الحديث فنهوا عن الصلاة وقت الخطبة ; لأنه وقت نهي كما نقل عن شريح والنخعي وابن سيرين وهو قول أبي حنيفة والليث ومالك والثوري .

                وهو قياس قول من منع تحية المسجد وقت النهي فإن الصلاة والخطيب على المنبر أشد نهيا ; بل هو منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا فإذا كان قد أمر بتحية المسجد في وقت الخطبة فهو في سائر الأوقات أولى بالأمر .

                وقد احتج بعض أصحابنا : أنه إذا دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة يسن له الركوع لقوله : { إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } وقالوا تنقطع الصلاة بجلوس الإمام على المنبر فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد ويوجز وهذا تناقض بين بل إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتحية في هذا الموضع وهو وقت نهي عن الصلاة وغيرها مما يشغل عن الاستماع ; فأوقات النهي الباقية أولى بالجواز .

                يبين ذلك أنه في هذه الحال لا يصلى على جنازة ; ولا يطاف [ ص: 194 ] بالبيت ولا يصلي ركعتا الطواف والإمام يخطب . فدل على أن النهي هنا أوكد وأضيق منه بعد الفجر والعصر فإذا أمر هنا بتحية المسجد فالأمر بها هناك أولى وأحرى . وهذا بين واضح ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                الوجه الثالث : أن يقال : قد ثبت استثناء بعض الصلوات من النهي : كالعصر الحاضرة وركعتي الفجر والفائتة وركعتي الطواف . والمعادة في المسجد فقد ثبت انقسام الصلاة أوقات النهي إلى منهي عنه ومشروع غير منهي عنه فلا بد من فرق بينهما إذا كان الشارع لا يفرق بين المتماثلين فيجعل هذا مأمورا وهذا محظورا . والفرق بينهما إما أن يكون المأذون فيه له سبب فالمصلي صلاة السبب صلاها لأجل السبب لم يتطوع تطوعا مطلقا ولو لم يصلها لفاته مصلحة الصلاة كما يفوته إذا دخل المسجد ما في صلاة التحية من الأجر وكذلك يفوته ما في صلاة الكسوف كذلك يفوته ما في سجود التلاوة وسائر ذوات الأسباب .

                وإما أن يكون الفرق شيئا آخر فإن كان الأول : حصل المقصود من الفرق بين ذوات الأسباب وغيرها . وإن كان الثاني قيل لهم : فأنتم لا تعلمون الفرق بل قد علمتم أنه نهى عن بعض ورخص في بعض ولا تعلمون الفرق فلا يجوز لكم أن تتكلموا في سائر موارد [ ص: 195 ] النزاع لا بنهي ولا بإذن ; لأنه يجوز أن يكون الفرق الذي فرق به الشارع في صورة النص فأباح بعضا وحرم بعضا متناولا لموارد النزاع إما نهيا عنه وإما إذنا فيه وأنتم لا تعلمون واحدا من النوعين فلا يجوز لكم أن تنهوا إلا عما علمتم أنه نهى عنه ; لانتفاء الوصف المبيح عنه ولا تأذنوا إلا فيما علمتم أنه أذن فيه ; لشمول الوصف المبيح له . وأما التحليل والتحريم بغير أصل مفرق عن صاحب الشرع فلا يجوز .

                فإن قيل : أحاديث النهي عامة فنحن نحملها على عمومها إلا ما خصه الدليل فما علمنا أنه مخصوص لمجيء نص خاص فيه خصصناها به وإلا أبقيناها على العموم .

                قيل : هذا إنما يستقيم أن لو كان هذا العام المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوى منه وأنه لما خص منه صور علم اختصاصها بما يوجب الفرق فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعنى منتف من غيرها بقي ما سوى ذلك على العموم فكيف وعمومه منتف وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة عموما محفوظا وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره بل غيره مشارك له في الوصف الموجب لتخصيصه أو أولى منه بالتخصيص .

                [ ص: 196 ] وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتي الطواف فإنه يمكن تأخير الطواف بخلاف تحية المسجد فإنها لا تمكن ; ثم الرجل إذا دخل وقت نهي إن جلس ولم يصل كان مخالفا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مفوتا هذه المصلحة إن لم يكن آثما بالمعصية وإن بقي قائما أو امتنع من دخول المسجد فهذا شر عظيم . ومن الناس من يصلي سنة الفجر في بيته ثم يأتي إلى المسجد فالذين يكرهون التحية : منهم من يقف على باب المسجد حتى يقيم فيدخل يصلي معهم ويحرم نفسه دخول بيت الله في ذلك الوقت الشريف وذكر الله فيه . ومنهم من يدخل ويجلس ولا يصلي فيخالف الأمر وهذا ونحوه مما يبين قطعا أن المسلمين مأمورون بالتحية في كل وقت وما زال المسلمون يدخلون المسجد طرفي النهار ولو كانوا منهيين عن تحية المسجد حينئذ لكان هذا مما يظهر نهي الرسول عنه فكيف وهو قد أمرهم إذا دخل أحدهم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلي ركعتين أليس في أمرهم بها في هذا الوقت تنبيها على غيره من الأوقات ؟ الوجه الرابع : ما قدمناه من أن النهي كان لسد ذريعة الشرك وذوات الأسباب فيها مصلحة راجحة والفاعل يفعلها لأجل السبب لا يفعلها مطلقا فتمتنع فيه المشابهة .

                [ ص: 197 ] الوجه الخامس : أنه قد ثبت في الصحيح { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى ركعتي الظهر بعد العصر } وهو قضاء النافلة في وقت النهي مع إمكان قضائها في غير ذلك الوقت فالنوافل التي إذا لم تفعل في أوقات النهي تفوت هي أولى بالجواز من قضاء نافلة في هذا الوقت مع إمكان فعلها في غيره لا سيما إذا كانت مما أمر به : كتحية المسجد وصلاة الكسوف وقد اختار طائفة من أصحاب أحمد منهم أبو محمد المقدسي أن السنن الراتبة تقضى بعد العصر ولا تقضى في سائر أوقات النهي . كالأوقات الثلاثة .

                وذكر أن مذهب أحمد : أن قضاء سنة الفجر جائز بعدها إلا أن أحمد اختار أن يقضيها من الضحى . وقال الإمام أحمد : إن صلاهما بعد الفجر أجزأه ; وأما أنا فأختار ذلك وذكر في قضاء الوتر بعد طلوع الفجر أن المنصوص عن أحمد أنه يفعله . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل : أيوتر الرجل بعد ما يطلع الفجر ؟ قال : نعم قال : وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وفضالة بن عبيد وعائشة وعبد الله بن عامر بن ربيعة . وهو أيضا مروي عن علي بن أبي طالب . وأنه لما ذكر له عن أبي موسى أنه قال : من أوتر بعد المؤذن لأوتر له وسألوا عليا . قال : أعرف : يوتر ما بينه وبين الصلاة وأنكر [ ص: 198 ] ذلك ولم يذكر نزاعا إلا عن أبي موسى مع أنه لا ينبغي بعد الفجر .

                قال : وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر وإنما فيه حديث أبي وقد احتج أحمد بحديث أبي نضرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح : الوتر } وهذا مذهب مالك والشافعي والجمهور . قال مالك : من فاتته صلاة الليل فله أن يصلي بعد الفجر قبل أن يصلي الصبح قال : وحكاه ابن أبي موسى الخرقي في " الإرشاد " مذهبا لأحمد قياسا على الوتر .

                قلت : وهذا الذي اختاره لا يناقض ما ذكره الخرقي وغيره من قدماء الأصحاب فإنه ذكر إباحة الأنواع الأربعة في جميع أوقات النهي : قضاء الفوائت وركعتي الطواف وإذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد وصلاة الجنازة ولكن ذكر النهي عن الكسوف وسجود التلاوة في بابهما . فلم ينه عن قضاء السنن في أوقات النهي .

                فاختار الشيخ أبو محمد وطائفة من أصحاب أحمد : أن السنن الراتبة تقضى بعد العصر ولا تقضى في سائر أوقات النهي ولا يفعل غيرها من ذوات الأسباب كالتحية وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة [ ص: 199 ] وصلاة التوبة وسنة الوضوء وسجود التلاوة لا في هذا الوقت ; ولا في غيره ; لأنهم وجدوا القضاء فيها قد ثبت بالأحاديث الصحيحة قالوا : والنهي في هذا الوقت أخف من غيره لاختلاف الصحابة فيه فلا يلحق به سائر الأوقات والرواتب لها مزية وهذا الفرق ضعيف فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد وأمره بصلاة الكسوف وسجود التلاوة أقوى من قضاء سنة فائتة فإذا جاز هذا فذاك أجوز فإن قضاء السنن ليس فيه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أمر بنفس السنة : سنة الظهر لكنه فعلها وداوم عليها وقضاها لما فاتته . وما أمر به أمته لا سيما وكان هو أيضا يفعله فهو أوكد مما فعله ولم يأمرهم به .

                فإذا جاز لهم فعل هذا في أوقات النهي ففعل ذاك أولى وإذا جاز قضاء سنة الظهر بعد العصر فقضاء سنة الفجر بعد الفجر أولى فإن ذاك وقتها وإذا أمكن تأخيرها إلى طلوع الشمس أمكن تأخير تلك إلى غروب الشمس وقد كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها وهو صلى الله عليه وسلم يراهم ويقرهم على ذلك : وقال : { بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء } كراهية أن يتخذها الناس سنة " .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية