الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 528 ] الباب الثامن :

                                                                                                                في صيام التطوع

                                                                                                                وهو من أفضل الأعمال ، وهو عندنا يجب إتمامه بعد الشروع فيه ، وفي الكتاب إن تسحر بعد الفجر ولم يعلم بطلوعه مضى فيه ولا شيء عليه ، فإن أفطر فعليه القضاء ، وفي مسلم : قال - صلى الله عليه وسلم - : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ; فإنما أطعمه الله وسقاه " . قال سند : القضاء استحسان ; لأنه مأمور بالإمساك بعد الإفساد ، وواجب إذا أفسد لغير عذر عند مالك ، وأوجبه ( ح ) مع القدرة ، ونفاه ( ش ) مطلقا بل جوز الفطر له ، وفي مسلم : قالت عائشة - رضي الله عنها - : دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، فقال : " هل عندكم شيء ؟ " فقلنا : لا ، قال : " إني إذا صائم " . ثم أتى يوما آخر فقلنا : يا رسول الله ، أهدي إلينا حيس ، فقال : أرينيه فلقد أصبحت صائما ، فأكل " . زاد النسائي : وأصوم يوما مكانه ، وقياسا على الشروع في تجديد الوضوء والصدقة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنها قضية عين فلعلها مختصة ، ويؤكده أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم شهوة بطنه على طاعة ربه ، وعن الثاني : المعارضة بالقياس على الحج والعمرة إذا شرع فيها متطوعا ، فإنه يجب الإتمام اتفاقا ، وأما قوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) . والنهي عن الإبطال يوجب الأداء ، فيجب القضاء قياسا على [ ص: 529 ] النذر ، وتوفية . . . وفي الموطأ عن عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدي إليهما طعام فأفطرتا عليه ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة : فبدرتني حفصة - وكانت بنت أبيها - فسألت عن ذلك ، فقال : " اقضيا يوما مكانه " . ولما قال السائل له - صلى الله عليه وسلم - : هل علي غير ذلك ؟ قال : لا ; إلا أن تطوع . فأثبت الوجوب مع التطوع وهو المطلوب .

                                                                                                                تنبيه

                                                                                                                لا يوجد لنا أن الشروع ملزم إلا في ست عبادات : الصلاة ، والصوم ، والحج ، والعمرة ، والاعتكاف ، والائتمام ، وطواف التطوع ، بخلاف الوضوء ، والصدقة ، والرفد ، والسفر للجهاد ، وغير ذلك ; فإن صوم عاشوراء عند مالك مستحب ، وعند الشافعي سنة ، وفي أبي داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " وصوم عاشوراء إني أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله " . قال ابن حبيب : يقال فيه : تاب الله على آدم - عليه السلام - ، واستوت السفينة على الجودي ، وفلق البحر لموسى - عليه السلام - ، وغرق فرعون ، وولد عيسى - عليه السلام - ، وخرج يونس - عليه السلام - من الحوت ، ويوسف - عليه السلام - من الجب ، وتاب الله تعالى على قوم يونس ، وفيه تكسى الكعبة كل عام .

                                                                                                                ومن أصبح غير ناو لصومه أجزأه صومه أو باقيه إن أكل ، وهو مروي عنه - صلى الله عليه وسلم - . ويستحب فيه التوسعة على العيال ، وهو عاشر المحرم ، وقال ( ش ) : التاسع ، وفي مسلم عن الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو متوسد رداءه في زمزم - فقلت : أخبرني عن صوم عاشوراء ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ، قلت : هكذا كان [ ص: 530 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ؟ قال : نعم ، ولأنه مأخوذ من أظماء الإبل ، وعادتهم تسمية الخامس ربعا . والجواب عن الأول : أنا نقول بموجبه ، وليس فيها الاقتصار على التاسع . وعن الثاني : أنه معارض بأن الأصل في الاشتقاق الموافقة في المعنى ، والعاشوراء من العشر . وصوم عرفة مستحب ، وقالت الشافعية : مسنون ، ويستحب إفطاره للحاج ليقوى على الدعاء خلافا ( ح ) ، وفي أبي داود وقال - صلى الله عليه وسلم - : " صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده " ، وفي أبي داود : نهي عن صيام يوم عرفة بعرفة .

                                                                                                                سؤال : قال العلماء : المراد بالتكفير الصغائر ، وفي الكتاب العزيز : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . فجعل اجتناب الكبائر مكفرا ، وروي أن الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ، وأن الجمعة كذلك ، وأن رمضان كذلك ، وإذا حصل التكفير بإحدى هذه لا تكون الأخرى مكفرة ، وإلا يلزم تحصيل الحاصل وهو محال .

                                                                                                                جوابه : معناه أن كل واحد منها شأنه التكفير ، فإن فعل شيئا كفر ، وإلا فلا ينتفي كونه من شأنه ذلك .

                                                                                                                وفي الجواهر : يستحب صوم تاسوعاء ويوم التروية ، وقد ورد صوم يوم التروية كصيام سنة ، وصوم الأشهر الحرم ، وشعبان ، وعشر ذي الحجة ، وقد روي أن صيام كل يوم منها يعدل سنة ، وفي مسلم : " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كأنما صام الدهر كله " . واستحب مالك صيامها في غيره خوفا من إلحاقها برمضان عند الجهال ، وإنما عينها الشرع من شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم ، وإلا فالمقصود حاصل في غيره ، فيشرع التأخير جمعا بين [ ص: 531 ] مصلحتين ، ومعنى قوله : " فكأنما صام الدهر أن الحسنة بعشرة ، فالشهر بعشرة أشهر ، والستة بستين كمال السنة ، فإذا تكرر ذلك في السنين فكأنما صام الدهر .

                                                                                                                سؤال : يشترط في التشبيه المساواة أو المقاربة ، وهاهنا ليس كذلك ; لأن هذا الصوم عشر صوم الدهر ، والأجر على قدر العمل ، ولا مقاربة بين عشر الشيء وكله .

                                                                                                                جوابه : معناه فكأنما صام الدهر أن لو كان من غير هذه الأمة ، فإن شهرنا بعشرة أشهر لمن كان قبلنا ، والستة بشهرين لمن كان قبلنا ، فقد حصلت المساواة من كل وجه .

                                                                                                                تنبيه :

                                                                                                                هذا الأجر مختلف الأجر ، فخمسة أسداسه أعظم أجرا لكونه من باب الواجب ، وسدسه ثواب النفل .

                                                                                                                فائدة : إنما قال : بست بالتذكير ، ولم يقل بستة رعيا للأصل ، فوجب تأنيث المذكر في العدد ; لأن العرب تغلب الليالي على الأيام لسبقها : فتقول لعشر مضين من الشهر ، واستحب مالك ثلاثة أيام من كل شهر ، فكان يصومها أوله وعاشره والعشرين وهي الأيام البيض ، واختار أبو الحسن تعجيلها أول الشهر وهي صيام الدهر ; لأن الثلاثة بثلاثين كما تقدم .

                                                                                                                فائدة : قال ابن الجواليقي في إصلاح ما تغلط فيه العامة : تقول الأيام البيض فيجعلون البيض وصفا للأيام ، والصواب أيام البيض أي : أيام الليالي البيض بحذف الموصوف وإقامة الوصف مقامه ، وإلا فالأيام كلها بيض ، والليالي البيض [ ص: 532 ] ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ; لأنها بيض بالقمر . وأسماء ليالي الشهر عشرة لكل ثلاث اسم ؛ الثلاث الأول غرر ; لأن غرة كل شيء أوله ، والثانية نفل مثل زحل ; لأنها زيادة على الغرر - والنفل الزيادة ، وثلاث تسع ; لأن آخرها تاسع ، وثلاث عشر ; لأن أولها عاشر ، ووزنها مثل زحل أيضا ، وثلاث تبع وثلاث درع كزحل أيضا ; لاسوداد أوائلها وابيضاض سائرها ، وثلاث ظلم كزحل أيضا ; لأن كلا منها مظلم ، وثلاث حنادس لسوادها . . . . . لأنها بقايا ، وثلاث محاق لإمحاق القمر أو الشمس .

                                                                                                                وكره مالك صوم الدهر لئلا يصادف نذرا أو غيره ، واستحبه أبو الطاهر ، قال سند : أجازه مالك إذا أفطر الأيام المنهي عنها ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ; لما في أبي داود : أن حمزة الأسلمي قال له - صلى الله عليه وسلم - : " إني رجل أسرد الصوم ; أفأصوم في السفر ؟ فقال : صم إن شئت " فيحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من صام الدهر لا صام - على من لا يفطر ما نهي عنه ، فإن نذره فأفطر ناسيا ، قال عبد الملك : لا شيء عليه لتعذر القضاء ; فإن تعمد الفطر فعليه كفارة المفطر يوما في رمضان ، وقال سحنون : إطعام مسكين ، وقياس المذهب الإثم فقط .

                                                                                                                وكره مالك تخصيص وسط الشهر بصوم ، واستحب أبو حنيفة صوم الخامس عشر ويومين قبله ، ورويت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنها الأيام البيض والغر . واستحب السابع والعشرين من رجب ، فيه بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وخمسة وعشرين من ذي القعدة فيه أنزلت الكعبة على آدم - عليه السلام - ومعها الرحمة ، وثالث المحرم فيه دعا زكريا ربه واستجاب له ، وصوم شعبان ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر صومه فيه ، وفيه ترفع الأعمال ، وصيام يوم نصفه وقيام ليلته .

                                                                                                                وفي الكتاب : لا أحب للمرأة التي تعلم حاجة زوجها إليها أن تصوم إلا بإذنه ; لما في أبي داود قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه " . قال سند : فلو أذن لها لم يكن له إبطاله ، وله إن لم يأذن ، وأم الولد والسرية كذلك [ ص: 533 ] قاله مالك ، وقال ابن حبيب : لا إذن له على إمائه ولا ذكور عبيده إلا أن يضعفهم عن الخدمة ، وليس للزوج تفطير زوجته الذمية في صومها الواجب في دينها - قاله ابن القاسم .

                                                                                                                وفي الكتاب : إنما يؤمر الصبيان بالصوم بعد البلوغ ، بخلاف الصلاة - خلافا للشافعية ، قال سند : وروى أشهب يؤمرون عند القدرة ، وصومهم شرعي عندنا ، وقال ( ح ) : إمساك للتمرين ، وقاله في الصلاة .

                                                                                                                لنا قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سألته المرأة عن الصغير : ألهذا حج ؟ قال : " نعم ، ولك أجر " ، وقياسا على صوم البالغ ، وإذا قلنا : يصوم عند القدرة فأفطر وهو يقدر ، أمر بالقضاء عند ابن الماجشون ، وعلى قول سحنون في الصبية تجامع فتصلي بغير غسل ، لا تقضي ما خرج وقته من الصلاة ولا تقضي الصوم ; فإن أفطر عجزا ; أمر بالقضاء عند عبد الملك ، وأن لا يقضي أحسن .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية