الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله . فقال بعضهم : بالإصرار والموت . وقال بعضهم : بالإصرار وحده . وقال آخرون : لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي ، وعند ذلك تبرأ منه . فكان تعالى يقول : لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه ، فكونوا كذلك ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله :( اتبع ملة إبراهيم ) ( النحل : 123 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة . قال :( إن إبراهيم لأواه حليم ) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه ، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه ، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به ، هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ ، وللمفسرين فيه عبارات ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الأواه : الخاشع المتضرع " وعن عمر : أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأواه ، فقال : "الدعاء" ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - بما يغير لونه ، فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "دعها فإنها أواهة" قيل يا رسول الله وما الأواهة ؟ قال : "الداعية الخاشعة المتضرعة" وقيل : معنى كون إبراهيم - عليه السلام - أواها ، كلما ذكر [ ص: 168 ] لنفسه تقصيرا أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقا من ذلك واستعظاما له . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : الأواه ، المؤمن بالخشية . وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم . واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ؛ لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ، ومن كان كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فأنتم بهذا المعنى أولى ، وكذلك وصفه أيضا بأنه حليم ، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب وشدة العطف ; لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية