الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه

عطف على جملة فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا الآية عطف حكم على حكم ، وتشريع على تشريع ، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة ، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه .

وقوله فبلغن أجلهن مؤذن بأن المراد : وإذا طلقتم النساء طلاقا فيه أجل . والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه . أعني أجل الانتظار ، وهو العدة ، وهو التربص في الآية السابقة .

وبلوغ الأجل : الوصول إليه ، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء ; لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح ، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته ، توسعا أي مجازا بالأول . وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من مغني اللبيب ، أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور : أحدها ، وهو الكثير المتعارف ، عن حصول الفعل ، وهو الأصل . الثاني : عن مشارفته نحو وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم أي يقاربون الوفاة ، لأنه حين الوصية . [ ص: 422 ] الثالث : إرادته نحو إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا .

الرابع : القدرة عليه نحو وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي قادرين .

( والأجل ) في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين ، ومنه قولهم : ضرب له أجلا ، أيما الأجلين قضيت .

والمراد بالأجل هنا آخر المدة ، لأن قوله ( فبلغن ) مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه ، وأسند بلغن إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل ، ليخرجن من حبس العدة ، وإن كان الأجل للرجال والنساء معا : للأولين توسعة للمراجعة ، وللأخيرات تحديدا للحل للتزوج . وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة .

والقول في الإمساك والتسريح مضى قريبا . وفي هذا الوجه تكرير الحكم المفاد بقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فأجيب عن هذا بما قاله الفخر : إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح ، في مدة العدة ، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة ، تذكيرا بالإمساك وتحريضا على تحصيله ، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك ، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره ، وذكر التسريح هنا مع الإمساك ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الإمساك ، وذلك بتقديمه في الذكر ; إذ لو لم يذكر الأمران لما تأتى التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم ، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة : التي اقتضى الحال الاعتراض بها .

وقوله أو سرحوهن بمعروف قيد التسريح هنا بالمعروف ، وقيد في قوله السالف أو تسريح بإحسان ، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك ، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح ، فلما تقدم ذكره لم يحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك . أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبني عليه النهي عن المضارة ، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان ، فطلب منه الحق ، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه ، سواء في الإمساك أو في التسريح ، ومضارة كل بما يناسبه .

وقال ابن عرفة : تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية الأخرى [ ص: 423 ] بتسريحهن ، مقارنا للإحسان ، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أن الأمر للندب لا للوجوب .

وقوله ولا تمسكوهن ضرارا تصريح بمفهوم فأمسكوهن بمعروف إذ الضرار ضد المعروف ، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف ، مع ما فيه من التأكيد ، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر : نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي ، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة ، وفيها نزاع في علم الأصول ، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة . على أن هذا العطف إن قلنا : إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار ، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار ، فيصير الضرار مساويا لنقيض المعروف ، قلنا أن نجعل نكتة العطف ، حينئذ ، لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف : بطريقي إثبات ، ونفي ، كأنه قيل : ( ولا تمسكوهن إلا بالمعروف ) ، كما في قول السموأل :


تسيل على حد الظبات نفوسنـا وليست على غير الظبات تسيل

والضرار مصدر ضار ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين ، مثل خاصم ، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل : عافاك الله ، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر ، تشنيعا على من يقصده بأنه مفحش فيه . ونصب ضرارا على الحال أو المفعولية لأجله .

وقوله لتعتدوا جر باللام ولم يعطف بالفاء ; لأن الجر باللام هو أصل التعليل ، وحذف مفعول ( تعتدوا ) ليشمل الاعتداء عليهن ، وعلى أحكام الله تعالى ، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة . والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين ، فنزل منزلة العلة مجازا في الحصول ، تشنيعا على المخالفين ، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه .

وقوله فقد ظلم نفسه جعل ظلمهم نساءهم ظلما لأنفسهم ، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة ، واضطراب حال البيت ، وفوات المصالح : بشغب الأذهان في المخاصمات . وظلم نفسه أيضا بتعريضها لعقاب الله في الآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية