الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 162 ] [ ص: 163 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 1 ) )

يقول تعالى ذكره : أتى أمر الله فقرب منكم أيها الناس ودنا ، فلا تستعجلوا وقوعه .

ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقربه منهم ما هو ، وأي شيء هو؟ فقال بعضهم : هو فرائضه وأحكامه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) قال : الأحكام والحدود والفرائض .

وقال آخرون : بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به ، أخبرهم أن الساعة قد قربت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت هذه الآية ، يعني ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبى بكر بن حفص ، قال : لما نزلت ( أتى أمر الله ) رفعوا رءوسهم ، فنزلت ( فلا تستعجلوه ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر بن [ ص: 164 ] شعيب ، قال : سمعت أبا صادق يقرأ ( يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى ( عما يشركون ) فدل بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم . وبعد ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . وأما مستعجلو العذاب من المشركين ، فقد كانوا كثيرا .

وقوله سبحانه وتعالى ( عما يشركون ) يقول تعالى تنزيها لله وعلوا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يدين به .

واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى ( عما يشركون ) فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين ( عما يشركون ) بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله ( فلا تستعجلوه ) إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله تعالى عما يشركون " إلى المشركين ، والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بينت من التأويل ، أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ، ابتدأ أول الآية بتهديدهم ، وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية