الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 109 ] الفصل الثاني الفرق بين النسخ والبداء

          واعلم أن البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء .

          ومنه يقال : بدا لنا سور المدينة بعد خفائه ، وبدا لنا الأمر الفلاني ، أي ظهر بعد خفائه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) ، ( بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ) ، ( وبدا لهم سيئات ما عملوا ) .

          وحيث كان فإن النسخ يتضمن الأمر بما نهي عنه والنهي عما أمر به على حده وظن أن الفعل لا يخرج عن كونه مستلزما لمصلحة أو مفسدة .

          فإن كان مستلزما لمصلحة فالأمر به بعد النهي عنه على الحد الذي نهى عنه إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المصلحة .

          وإن كان مستلزما لمفسدة فالنهي عنه بعد الأمر به على الحد الذي أمر به إنما يكون لظهور ما كان قد خفي من المفسدة ، وذلك عين البداء .

          ولما خفي الفرق بين البداء والنسخ على اليهود والرافضة ، منعت اليهود من النسخ في حق الله تعالى ، وجوزت الروافض البداء عليه لاعتقادهم جواز النسخ على الله تعالى مع تعذر الفرق عليهم بين النسخ والبداء [1] واعتضدوا في ذلك بما نقلوه [ ص: 110 ] عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة .

          ونقلوا عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - أنه قال : " ما بدا لله تعالى في شيء كما بدا له في إسماعيل " أي في أمره بذبحه .

          ونقلوا عن موسى [2] بن جعفر أنه قال البداء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية ، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) ، وفي ذلك قال شاعرهم :


          ولولا البداء سميته غير هائب وذكر البدا نعت لمن يتقلب     ولولا البدا ما كان فيه تصرف
          وكان كنار دهره يتلهب     وكان كضوء مشرق بطبيعة
          وبالله عن ذكر الطبائع يرغب



          فلزم اليهود على ذلك إنكار تبدل الشرائع ، ولزم الروافض على ذلك وصف الباري تعالى بالجهل مع النصوص القطعية والأدلة العقلية الدالة على استحالة ذلك في حقه ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

          أما النصوص الكتابية فكقوله تعالى : ( وهو بكل شيء عليم ) ، وقوله تعالى : ( عالم الغيب والشهادة ) ، وقوله : ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ، وقوله ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) إلى غير ذلك من الآيات .

          وأما الأدلة العقلية فما استقصيناه في كتبنا الكلامية .

          وما نقلوه عن علي وعن أهل بيته فمن الأحاديث التي انتحلها الكذاب الثقفي [3] [ ص: 111 ] على أهل البيت ، فإنه كان يدعي العصمة لنفسه ، ويخبر بأشياء فإذا ظهر كذبه فيها ، قال : إن الله وعدني بذلك ، غير أنه بدا له فيه ، وأسند ذلك إلى أهل البيت مبالغة في ترويج أكاذيبه .

          وأما الآية فالمراد بها إنما هو محو المنسوخ وإثبات الناسخ ومحو السيئات بالحسنات كما قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ومحو الحسنات بالردة على ما قال تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) أو محو المباحات ، وإثبات الطاعات على ما قاله أهل التفسير ، أو محو ما يشاء من الآجال أو الأرزاق وإثبات غيرها .

          ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين الأدلة القاطعة الدالة على امتناع الجهل في حق الله تعالى .

          [4] وكشف الغطاء عن ذلك يتحقق بالفرق بين النسخ والبداء فنقول : إذا عرف معنى البداء وأنه مستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء وأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى على ما بيناه في كتبنا الكلامية فالنسخ ليس كذلك فإنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى في الأزل استلزام الأمر بفعل من الأفعال للمصلحة في وقت معين واستلزام نسخه للمصلحة في وقت آخر ، فإذا نسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه فلا يلزم من ذلك أن يكون قد ظهر له ما كان خفيا عنه ، ولا أن يكون قد أمر بما فيه مفسدة ، ولا نهى عما فيه مصلحة ، وذلك كإباحته الأكل في الليل من رمضان وتحريمه في نهاره .

          [ ص: 112 ] فإن قيل : لا يخلو إما أن يكون الباري تعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبدا ، أو إلى وقت معين ، وعلم أنه لا يكون مأمورا بعد ذلك الوقت .

          فإن كان الأول استحال نسخه لما فيه من انقلاب علمه جهلا ، وإن كان الثاني ، فالحكم يكون منتهيا بنفسه في ذلك الوقت فلا يتصور بقاؤه بعد ، وإلا لانقلب علم الباري جهلا ، وإذا كان منتهيا بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثرا فيه لا في حالة علم الله تعالى أنه يكون الفعل مأمورا فيها ، ولا في حالة علم الله أنه لا يكون مأمورا فيها لما فيه من انقلاب علمه إلى الجهل ، وإذا لم يكن الناسخ مؤثرا فيه فلا يتصور نسخه .

          قلنا : الأمر مطلق ، والباري علم أن الأمر بالفعل ينتهي بالناسخ في الوقت الذي علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقا بل علم انتهاءه بالنسخ فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلا ، وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر في ذلك الوقت بالنسخ أن لا يكون الأمر منسوخا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية