الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 424 ] ولا تتخذوا آيات الله هزؤا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم

عطف هذا النهي على النهي في قوله ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة ، لقصد المضارة ، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة ، مريدا رحمة الناس ، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزؤا ، وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - إلى قوله - وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون .

والهزء بضمتين ، مصدر هزأ به إذا سخر ولعب ، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي لا تتخذوها مستهزأ به ، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين ، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات ، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف ، وعدم الرعاية ، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به ، مع العلم بأهميته ، كالساخر واللاعب . وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله ، ومقاصد شرعه ، ومن هذا التوصل المنهي عنه ، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر ، بمقتضى حكم الشرع ، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته ، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية .

فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة ، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة ، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصا على بقاء المودة والرحمة ، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية ، وتفاقم الشر والعداوة . وفي الموطأ أن رجلا قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس بانت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزؤا . يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق ، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية ، فجعله سبب نكاية وتغليظ ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة ، ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال [ ص: 425 ] واذكروا نعمة الله عليكم فذكرهم بما أنعم عليهم ، بعد الجاهلية ، بالإسلام ، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فكما أنعم عليكم بالانسلاخ عن تلك الضلالة ، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام وقوله وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة معطوف على نعمة ، وجملة يعظكم به حال ويجوز جعله مبتدأ ; وجملة يعظكم خبر ، والكتاب : القرآن . والحكمة : العلم المستفاد من الشريعة ، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين ، وأسرار الشريعة ، كما قال تعالى ، بعد أن بين حكم الخمر والميسر كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن ، كما ذكرنا ، ومن الإيماء إلى العلل ، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين ، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها . والموعظة والوعظ : النصح والتذكير بما يلين القلوب ، ويحذر الموعوظ .

وقوله واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلا لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة ، منزلة من يجهل أن الله عليم ، فإن العليم لا يخفى عليه شيء ، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء ، لأن هذا العليم قدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية