الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 9 ] الباب الأول

                                                                                                                في زكاة النقدين

                                                                                                                والنظر في سبب الوجوب وشروطه وموانعه ، والجزء الواجب ، والواجب عليه ، فهذه خمسة أنظار ، النظر الأول في التسبب ، وهو أن يملك نصابا من الذهب وهو عشرون دينارا مسكوكة أو غير مسكوكة ، أو من الورق وهو مائتا درهم مسكوكة أو غير مسكوكة .

                                                                                                                وفي ( التنبيهات ) : النصاب في اللغة الأصل ، ومنه قول السموأل :


                                                                                                                ونحن كماء المزن لا في نصابنا كهام ولا منا يعد بخيل



                                                                                                                وأصله المنار وهو العلم ومنه الأنصاب ، حجارة نصبت علما للعبادة ، وأخذت من الارتفاع ; لأن نصائب الحوض حجارة ترفع حوله ، والنصاب أصل الوجوب وعلم عليه ، ومرتفع عن القلة ، فاجتمعت المعاني كلها فيه ، وفي النسائي ، قال عليه [ ص: 10 ] السلام : المكيال على مكيال أهل المدينة ، والوزن على وزن أهل مكة . وفي الجواهر قال ابن حنبل : أخبرني كل من أثق به أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة ، وثلاثة أعشار الحبة من حب الشعير المطلق ، والدرهم سبعة أعشار المثقال ، فالدرهم المكي سبع وخمسون حبة وستة أعشار الحبة وعشر عشر حبة ، قال سند : كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ، وكانت الدراهم بغلية ثمانية دوانق ، وطبرية أربعة دوانق ، فجمعت في الإسلام ، وكل جعل كل درهم ستة دوانق ، وقال غيره : والبغلية كبرت لرداءتها ، وكان الاجتماع على ذلك في زمن عبد الملك بن مروان ، والظاهر من الاجتماع إنما كان ذهاب تلك الرداءة التي هي من آثار الكفر ، وإن الدرهم كان معلوما في زمنه عليه السلام ; ولذلك رتب الزكاة عليه ، وكانت الأوقية في زمنه أربعين والسن نصف أوقية ، والنواة خمسة دراهم .

                                                                                                                والدنانير في الأحكام ( خمسة ) ، ثلاثة ، اثنا عشر في الدية والنكاح والسرقة ويجمعها أنها في الذمة ، واثنان ، عشرة عشرة في الزكاة والجزية ; لأن تقسيط المقدر من الدراهم على المقدر من الدنانير يقتضيه .

                                                                                                                تنبيه : الدرهم المصري أربعة وستون حبة ، فهو أكثر من درهم الزكاة ، فإذا أسقطت الزائد كان النصاب من دراهم مصر مائة وثمانين درهما وحبتين فقط .

                                                                                                                [ ص: 11 ] والنقدان ثلاثة أقسام : أعيان موجودة ، وقيم المتاجر ، وديون في الذمة . القسم الأول : النقود الموجودة ، وهي الذهب والفضة ، وفي الكتاب : إذا كان عنده فلوس قيمتها مايتا درهم لا زكاة ، إلا أن يكون مديرا فتجرى مجرى العرض ، وكره الربا فيها ، وقال ش ، ح : إذا أعدت للمعاملة وجبت في قيمتها الزكاة ، ولا يعتبر وزنها اتفاقا ، والفرق بين الزكاة والربا : أن الربا أشد ; لأن البين عند الجميع ، والمطعومات عند ش والمكيالات عند ح ربويات ، وليست كلها زكوية مع أن مالكا لم يحرم ، وإنما كره الربا فيها .

                                                                                                                ( فروع خمسة ) :

                                                                                                                الأول : ما زاد على النصاب أخذ منه بحسابه عند مالك و ش وابن حنبل ، وقال طاوس : لا شيء فيه حتى يبلغ مائتين أخرى ، وقال ح : لا شيء فيه حتى تصير الدراهم مائتين وأربعين ، والدنانير أربعة وعشرين محتجا بما في أبي داود : قال عليه السلام : عفوت لكم عن الخيل والرقيق ، فهاتوا صدقة الرقة ، من كل أربعين درهما درهم ، وليس في تسعين ومائة شيء ، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم ، ولأنه نصاب مزكى فيكون له وقص كالمائية .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنه معارض بما في أبي داود : قال عليه السلام لعلي [ ص: 12 ] - رضي الله عنه - : ( إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا ) ، فإذا كان لك عشرون دينارا ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك ) وفي سنده وهن ، ولأن الاستدلال بما ذكرتموه إنما هو من جهة مفهوم العدد ، وهو معارض بالمنطوق ، وهو أقوى منه إجماعا بما في قوله عليه السلام : " في الرقة ربع العشر " ، وعن الثاني : ( الفرق ) بأن التجزئة في المواشي عشرة بخلاف النقدين ، والمعارضة بالقياس على الحبوب وهو أولى من القياس على المواشي ، لأجل تيسير التجزيء وعدم اختلاف النصاب .

                                                                                                                فائدة : الرقة بكسر الراء وفتح القاف وتخفيفها : الدراهم المسكوكة ، لا يقال في غيرها ، والورق : المسكوك وغيره ، قاله في ( التنبيهات ) .

                                                                                                                الثاني : لو كانت المائتان ناقصة تجوز بجواز الوازنة ، قال الأبهري : ومعنى النقصان أن تكون في ميزان دون آخر ، فإن نقصت في الجميع فلا زكاة ، وقال عبد الوهاب : بل فيها الزكاة إذا تسامح الناس بذلك ، وعليه جمهور الأصحاب ، وقال محمد : إن نقصت كل دينار ثلاث حبات وهي تغتفر وجبت الزكاة ، وفي ( الموطأ ) كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمصر : أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يريدون من التجارة من كل أربعين دينارا دينارا ، فما نقص فبحساب ذلك ، حتى تبلغ عشرين دينارا ، فإن نقصت ثلث دينار فلا تأخذ منها شيئا .

                                                                                                                قال صاحب ( تهذيب الطالب ) : [ ص: 13 ] قال عبد الملك : إذا جازت بجواز الوازنة وجبت الزكاة ، كان النقص ما كان بحصول المقصود ، هذا في المسكوكة ، وأما غيرها فقال عبد المالك : إذا نقص غير المسكوك درهما من المائتين ، أو ثلث دينار لم تجب الزكاة ، قال : وتعارض الموازين كتعارض البينتين والخبرين والقياسين ، والمثبت أولى من النافي .

                                                                                                                قال صاحب ( المقدمات ) : قال ابن حبيب : تجب الزكاة في مائتي درهم بوزن زماننا ، ويزكي أهل كل بلد بوزنهم وإن كان أقل من الكيل ، قال : وهو بعيد جدا ، وقال ابن حبيب بقول مالك ، وقال ش و ح : إذا نقص النصاب حبة لا تجب الزكاة ، ورواه صاحب ( الجواهر ) عن مالك .

                                                                                                                الثالث : إذا كان النقد مغشوشا يسيرا جدا كالدانق في العشرة : فلا حكم له ، وإلا فالمعتبر بما فيه حق النقد قل أو كثر ، وقاله ش وابن حنبل ، وقال الحنفي وابن النجار منا : الحكم للأغلب ، وظواهر النصوص تمنع الاعتداد بغير النقدين .

                                                                                                                الرابع في الكتاب : يضم الذهب إلى الورق بالأجزاء لا بالقيمة ، ويخرج من كل صنف ربع عشره ، وقاله ح و ش وابن حنبل وقال : هما جنسان لا يمتنع التفاضل بينهما فيمتنع الضم كالإبل مع البقر ، والفرق : أنهما رءوس الأموال وقيم المتلفات ، والواجب في الجميع ربع العشر بخلاف غيرها ، وقال ح : يكمل النصاب بالورق أو القيمة لحصول المقصود ، وجوابه : لو ملك عشرة [ ص: 14 ] قيمتها مائتا درهم لم تجب الزكاة إجماعا ، وأما الإخراج من كل صنف فلأنه أعدل للفقراء والأغنياء مع علة الاختلاف بخلاف الحبوب ، لما عظم الخلاف فيها اعتبر الوسط عدلا بين الفريقين .

                                                                                                                فائدة هندسية فقهية يعلم بها النقد المغشوش هل هو مغشوش أم لا ؟ وإن كان مغشوشا فما مقدار غشه ؟ وهل الغش من النقد الزكوي فيضم بعد العلم بمقداره أو من غيره فيطرح من غير حمى بالنار ؟ ولا برد بالمبرد ولا حك بالميلق ، بل يعلم ذلك والذهب والفضة على حاليهما من سكة أو صياغة أو ترصيع فصوص مع بقائه على منحته ، وهي فائدة يحتاجها الفقهاء والقضاة في أموال الأيتام ، والملوك وأرباب الأموال النفيسة ، وهي من عجائب المعقولات مما تعب الأقدمون التعب الكثير حتى فتح الله عليهم بها .

                                                                                                                وصورة ذلك : أن يتخذ ميزانا تتحرك علاقة كفته من طرف العمود إلى وسطه ، ويعمل على طرف العمود علامة متقاربة متناسبة البعد محررة التساوي ، ثم تأخذ ذهبا أو فضة خالصين وتسوى زنتهما في الهواء ، ولتكن كفتا الميزان من جسم يغوص في الماء متساويتي الزنة والمساحة ، ثم نزلهما في مائع متساوي الأجزاء ، سهل الحركة كالماء الصافي ونحوه ، فيحصل في كفة الذهب من الماء أكثر مما في كفة الفضة ليتلزز الذهب فتحرك علاقة كفته على العمود حتى يساوي الفضة في الماء ، كما ساواها في الهواء ، وتحفظ عدد تلك العلامات ( التي ) قطعتها علاقة كفته ، ولتكن ستة مثلا فيعلم أن ذلك فضل الذهب الخالص على الفضة الخالصة ، ونفرض أن الجرم الممتحن ذهب فتزنه بفضة خالصة في الهواء ثم تضعها في الماء فترجح كفة الممتحن لتلزز الذهب ، فتسوي [ ص: 15 ] بينهما في الماء بتحريك العلاقة على الرد ، فإن قطعت العلاقة تلك العلامات الست فهو خالص لا غش فيه ، وإن حصلت المساواة دون ذلك ، ولتكن حصلت بالحركة على أربع فقط ، فقد بقي الثلث ، فثلثه فضة ، وعلى هذه النسبة ، أو يعمل جرمين متساويي العظم أحدهما ذهب خالص والآخر فضة خالصة ، وتحرر وزنهما ، ولتكن الفضة أربعة ، والذهب خمسة ، ويعمل جرما آخر مساويا عظمه لعظم الممتحن فضة خالصة ، ولتعرف وزنه ، ولتكن سبعة ، ووزن الممتحن ثمانية بزيادة الممتحن واحدا ، ونسبته إلى السبعة ، نسبة السبع ، ونسبة الواحد في الذهب الخالص إلى الفضة الخالصة نسبة الربع ، ففي الممتحن من الغش بقدر ما بين الربع والسبع ، فلو كان الممتحن ثمانية ونصفا وربعا حتى يكون لزائد مثل ربع الفضة التي تقابله ، كان خالصا فإن عسر علينا وجود فضة متساوية للمختلط عملنا جرمين من شمع أو غيره ، أحدهما مساو عظمه لعظم المختلط ، والآخر يساوي عظمه عظم فضة ( مساوية للمختلطة ) أعددناها ، ثم تعرف زنة الشمعين ، فإن كانت نسبة زنة شمع الممتحن إليه كنسبة زنة شمع الفضة إليها فالممتحن فضة خالصة ، وإن كان ذهبا فاجعل مكان الفضة ذهبا ، فإن عسر اتخاذ جرم يساوي عظمه عظم المختلط فتزنه بصنج في الهواء في ميزان محكم ، ثم تزيله من الميزان ، وتملأ كفتيه بالماء ، ثم تضع الممتحن في الكفة فيطلع بعض الماء وترجح الكفة فتقابله بالصنج في الكفة الأخرى ، فتكون هذه الصنج أكثر من صنج الهواء إن كان جوهرها أخف من جوهر الذهب ; لأن الخالص حينئذ من الماء معها أقل ، ومع الممتحن أكثر ، فإن كانت أثقل من جوهر الذهب كانت أقل من صنج الهواء ، أو مساوية له كانت مساوية لصنج الهواء ، ثم تحفظ نسبة ما بين الهواء والماء من زيادة الصنج وقلتها ، وتفعل مثل ذلك بجسم خالص من الذهب [ ص: 16 ] إن كان الممتحن ذهبا ، أو فضة إن كانت فضة ، فإن استوت النسبتان فهو خالص ، أو اختلفتا فهو مغشوش بقدر الاختلاف ، وبهذه الطريق يمتحن سائر المعادن .

                                                                                                                الخامس : حلي التجارة المفصل بالياقوت ونحوه يزكي عليه غير المدير وزنه كل عام ، والحجارة بعد البيع ، والمدير يقوم الحجارة في شهر زكاته ويزكي وزن الحلي . وفي ( المقدمات ) : إن كان مربوطا بالحجارة ربط صياغة : روى ابن القاسم : لا تأثير للربط ، فإن كان الذهب تبعا للحجارة ووزنه زكى الذهب تحريا كل عام ، وإذا باع زكى ما ينوب الحجارة بعد حول من يوم البيع ، وإن اشتراه للتجارة وهو مدير قوم الحجارة وزكى وزنه تحريا ، وهو ظاهر ( المدونة ) وقال التونسي : تقوم الصياغة ، وإن كان محتكرا زكى الذهب كل عام تحريا ، وثمن الحجارة بعد البيع لعام واحد ، فعلى ظاهر ( المدونة ) يفض الثمن على الحلي مصوغا وقيمة الحجارة ، وعلى قول التونسي : لا يحتاج إلى الفض ، بل يسقط عدد ما زكى تحريا ويزكي الباقي ، وفي ( الجواهر ) : إذا لم يمكن النزع فهل يعطي كل نوع حكمه بالتحري أو يغلب الحجارة فيكون الجميع عرضا ، أو يكون الحكم للأكثر ؟ .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية