الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ( أن ) مع الفعل في قولنا : ( أن أوحينا ) في تقدير المصدر وهو اسم كان ، وخبره هو [ ص: 7 ] قوله : ( عجبا ) وإنما تقدم الخبر على المبتدأ هاهنا ؛ لأنهم يقدمون الأهم ، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم ، وأما ( أن ) في قوله : ( أن أنذر الناس ) فمفسرة ؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله ، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير . أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي ، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها . وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قوله : ( قدم صدق ) فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال للمفسرين . أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في " البسيط " منها وجوها . قال الليث وأبو الهيثم : القدم : السابقة ، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند الله خير . قال ذو الرمة :


                                                                                                                                                                                                                                            وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر



                                                                                                                                                                                                                                            وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم ، فسمي المسبب باسم السبب ، كما سميت النعمة يدا ؛ لأنها تعطى باليد .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه : ( قدم صدق ) ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة ، وقال بعضهم : المراد مقام صدق . وأما المفسرون فلهم أقوال : فبعضهم حمل ( قدم صدق ) على الأعمال الصالحة ، وبعضهم حمله على الثواب ، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام ، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                            صل لذي العرش واتخذ قدما     ينجيك يوم العثار والزلل



                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين : ( إن هذا لساحر مبين ) أي : إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر . والابتداء بقوله : ( قال الكافرون ) على تقدير : فلما أنذرهم قال الكافرون : إن هذا لساحر مبين ، قال القفال : وإضمار هذا غير قليل في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : ( إن هذا لساحر ) والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلم ، والباقون ( لسحر ) والمراد به القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم وكونه معجزا وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة ، فاحتاجوا إلى هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا ، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم ، [ ص: 8 ] ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه . فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ، ولكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال آخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله ، جار مجرى السحر .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه ، وإنما قلنا : إنه في غاية الفساد ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان منهم ، ونشأ بينهم ، وما غاب عنهم ، وما خالط أحدا سواهم ، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء حتى يقال : إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن . وإذا كان الأمر كذلك كان حمل القرآن على السحر كلاما في غاية الفساد ، فلهذا السبب ترك جوابه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية