الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت مادة "كتب" دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة [على] وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال: وقال الحرالي: [و] لما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء [هذا] الخطاب ردا عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الإحاطة الكتابية بالتنزيل الذي [هو] تدرج من رتبة إلى رتبة دونها; انتهى فقال: نـزل أي شيئا فشيئا في هذا العصر عليك أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحى إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي الكتاب أي القرآن الجامع للهدى منجما بحسب الوقائع، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 207 ] قال الحرالي: وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى. تنزيلا ملتبسا بالحق أي الأمر الثابت، فهو ثابت في نفسه، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك. قال الحرالي: وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع. انتهى. حال كونه مصدقا ولما كان العامل مرفوعا لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال: لما بين يديه أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية. قال الحرالي: لما كان هذا الكتاب أولا وجامعا ومحيطا كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما [كان] نزاع وفد نجران في الإله أو النبي أو فيهما [ ص: 208 ] كان هذا الكلام كفيلا على وجازته بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية، وفي المعنى بالكتاب المعجز، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى [أن] من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال: وأنـزل التوراة وهو "فوعلة" لو صرفت من الوري وهو قدح النار من الزند، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد [و] اتلاج واتزار واتزان ونحوه قال الحرالي: فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من [كفر] دعي إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور والإنجيل من النجل، وضع على زيادة "إفعيل" لمزيد معنى ما وضعت له هذه الصيغة، وزيادتاها مبالغة في المعنى، وأصل النجل استخراج خلاصة الشيء، ومنه يقال للولد: نجل أبيه. كأن الإنجيل استخلص خلاصة نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة [يوم الأخرى فهو جامع إحاطة [ ص: 209 ] الظواهر، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة] لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها، فكان الإنجيل مقيما لأمر الآخرة هادما لأمر الدنيا مع حصول أدنى بلغة، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف; فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاما بعلي قدرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية