الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل [ ص: 764 ] فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وقوله : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وقول الملأ : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [ ص: 765 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا

                                                                                                                                                                                                                                      فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : هذا تأويل رؤياي من قبل والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه أي : في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا إلى قوله : وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا

                                                                                                                                                                                                                                      فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم [ ص: 766 ] من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا ، مثل حول تحويلا ، وعول تعويلا . و ( أول يؤول ) تعدية ( آل يؤول أولا ) ، مثل حال يحول حولا وقولهم ( آل يؤول ) أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وأل ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : لن يجدوا من دونه موئلا

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى الأولى ، وفي القصص : له الحمد في الأولى والآخرة ومن الناس من يقول فوعل ويقول ( أوله ) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل . فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل : أكبر وكبرى وأصغر وصغرى ، لا من أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : من أول يوم وأنا أول المسلمين ولا تكونوا أول كافر به [ ص: 767 ] ومثل : هذا أول هؤلاء . .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ؛ كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم في فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء . والمبتدي خلاف العائد ، لأنه إنما كان أولا لما بعده ، فإنه يقال : أول المسلمين ، وأول يوم ، فما فيه من معنى الرجوع والعود ، هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف ، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره ، لأن كونه مفضلا دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع ، إذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره . آيلا إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفضيل يجري على غير فعل كقوله : وتبتل إليه تبتيلا فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل ، كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كـ: درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون قال : حقيقة . فإن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذبا، وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ، وإلا لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا ، ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا [ ص: 768 ] فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا هذه الآية : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : من قال إن هذا من المتشابه وإنه لا يفهم معناه ، ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في [ ص: 769 ] أحاديث الوعد . مثل : « من غشنا فليس منا » . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تأويلا ، بالعرف المتأخر .

                                                                                                                                                                                                                                      فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية . وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله ، فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث - تفسيرها ، وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات ، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) ، و : ( على كل شيء قدير ) ، و : فإن الله يحب المتقين و : ( المقسطين ) ، و : ( المحسنين ) ، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، [ ص: 770 ] و : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ولكن كره الله انبعاثهم الرحمن على العرش استوى ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إنني معكما أسمع وأرى [ ص: 771 ] وهو الله في السماوات وفي الأرض ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام يريدون وجهه ولتصنع على عيني إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا ، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) . معنى . ونفهم من قوله : [ ص: 772 ] ( إن الله على كل شيء قدير ) معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : ورحمتي وسعت كل شيء معنى ، ونفهم من قوله : إن الله عزيز ذو انتقام معنى. وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلا محضا . وما أعلم مسلما يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث ، بخلاف الذات .

                                                                                                                                                                                                                                      فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين [ ص: 773 ] باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمان رحيم ودود سميع بصير علي عظيم ، كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت ، مثلا ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال ( وهو حقيقة قوله ) : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين ، لأن الفعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم ، والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ، ومحذورا إن قال بحدوثها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 774 ] وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فصاروا حزبين :

                                                                                                                                                                                                                                      البغداديون : وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .

                                                                                                                                                                                                                                      والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضا . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطا أو مقرمطا ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 775 ] ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتض ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجب به الإثبات . فإن كان المقتضى هناك حقا ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقا نفاهما ، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي ، فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة، وإن لم يعرف فسادها على التفضيل، وأما من حيث التفصيل ، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال : من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 776 ] فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضا ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ، ومدلولا عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا ، تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف . فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس . وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .

                                                                                                                                                                                                                                      فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من [ ص: 777 ] عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا

                                                                                                                                                                                                                                      والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية