الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وأبو إسحاق الشيرازي وغير واحد، بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها عن ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها [ ص: 99 ] اختصاص، بل ما قاله قاله غيرهما، إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه من رؤوس الطوائف، وأصله في ذلك هي مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى: هل تقوم بذاته أم لا؟ فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا، والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته.

ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كالقلانسي والأشعري ونحوهما، بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال.

وقد ذكر الأشعري في " رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب " أنه طريق مبتدع في دين الرسل، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري، كالخطابي وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا من وافق ابن كلاب لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلا، وإن لم يقل: إن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها لزمه: إما قول ابن كلاب، أو ما يضاهيه.

وهذا الذي نقلوه - من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر [ ص: 100 ] الباقلاني - هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام عليه الشيخ أبو حامد والشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام، وأهل الحجاز ومصر، مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب والأشعري أجل منه ولا أحسن كتبا وتصنيفا، وبسببه انتشر هذا القول، وكان منتسبا إلى الإمام أحمد وأهل السنة وأهل الحديث والسلف، مع انتسابه إلى مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة حتى كان يكتب في بعض أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف، كما تقدم ذكر ذلك، ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله، ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد - وأبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله - ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صنفه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي، وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر، وقد حكى عنه: أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب والأشعري يقول: "هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم وأنا لم تتبين لي هذه المسألة" فكان يحكى عنه الوقف فيها، إذ له في عدة من المسائل [ ص: 101 ] قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه، ومع هذا تكلم فيه أهل العلم، وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة مما يطول وصفه، كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه، حتى ذكر أبو إسماعيل الأنصاري قال: سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة أبي حامد - يعني الإسفرايني - على ابن الباقلاني، قال: وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد: إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني، قال: وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول: سمعت أبي يقول: لعن الله أبا ذر الهروي، فإنه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة.

قلت: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد [ ص: 102 ] الباجي فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر، ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي في " الإرشاد ".

ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم ؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم ؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.

وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، [ ص: 103 ] ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [ سورة الحشر: 10].

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة: 286].

التالي السابق


الخدمات العلمية