الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال السلمي : وحكي عنه أنه رئي واقفا في الموقف ، والناس في الدعاء ، وهو يقول : أنزهك عما قرفك به عبادك ، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون .

                                                                                      قلت : هذا عين الزندقة ; فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة ، فهل وحدوه -تعالى- إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من قالها من قلبه ، فقد حرم ماله ودمه .

                                                                                      [ ص: 343 ] وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فإذا برئ الصوفي منها ، فهو ملعون زنديق ، وهو صوفي الزي والظاهر ، متستر بالنسب إلى العارفين ، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل ، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبين إلى صحبته وإلى ملته ، وهم في الباطن من مردة المنافقين ، قد لا يعرفهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا يعلم بهم .

                                                                                      قال الله تعالى : " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين " فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات ، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته ، فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي ، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله ، وانهتك باطنه وزندقته ، فلا هذا ولا هذا ; بل العدل أن من رآه المسلمون صالحا محسنا فهو كذلك ; لأنهم شهداء الله في أرضه إذ الأمة لا تجتمع على [ ص: 344 ] ضلالة وأن من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا ، فهو كذلك .

                                                                                      وأن من كان طائفة من الأمة تضلله ، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله ، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه ، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه ، وأن يفوض أمره إلى الله ، وأن يستغفر له في الجملة ; لأن إسلامه أصلي بيقين ، وضلاله مشكوك فيه ، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين .

                                                                                      ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم ، مؤمنهم وفاسقهم ، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج ، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك ، فهذا الصديق فرد الأمة ، قد علمت تفرقهم فيه ، وكذلك عمر ، وكذلك عثمان ، وكذلك علي ، وكذلك ابن الزبير ، وكذلك الحجاج ، وكذلك المأمون ، وكذلك بشر المريسي ، وكذلك أحمد بن حنبل ، والشافعي ، والبخاري ، والنسائي ، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا ، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه ، وما من رأس في [ ص: 345 ] البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له ، ويذبون عنه ، ويدينون بقوله بهوى وجهل ; وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل ، المتصفين بالورع والعلم .

                                                                                      فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رءوس القرامطة ، ودعاة الزندقة ، وأنصف وتورع واتق ذلك ، وحاسب نفسك ، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام ، محب للرئاسة ، حريص على الظهور بباطل وبحق ، فتبرأ من نحلته ، وإن تبرهن لك -والعياذ بالله- أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق ، وأن يثبت قلبك على دينه ; فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم ، ولا قوة إلا بالله ، وإن شككت ولم تعرف حقيقته ، وتبرأت مما رمي به ، أرحت نفسك ، ولم يسألك الله عنه أصلا .

                                                                                      السلمي : سمعت محمد بن أحمد بن الحسن الوراق : سمعت إبراهيم بن عبد الله القلانسي الرازي يقول : لما صلب الحلاج -يعني في النوبة الأولى- وقفت عليه ، فقال : إلهي ، أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب ; إلهي ، إنك تتودد إلى من يؤذيك ، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك .

                                                                                      السلمي : سمعت أبا العباس الرازي يقول : كان أخي خادما للحلاج ، فلما كانت الليلة التي يقتل فيها من الغد قلت : أوصني يا سيدي . فقال : عليك نفسك ، إن لم تشغلها شغلتك . فلما أخرج كان يتبختر في قيده ويقول : [ ص: 346 ] نديمي غير منسوب إلى شيء من الحيف سقاني مثل ما يشرب فعل الضيف بالضيف     فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف
                                                                                      كذا من يشرب الكأس مع التنين في الصيف ثم قال : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ثم ما نطق بعد .

                                                                                      وله أيضا .     يا نسيم الريح قولي للرشا
                                                                                      لم يزدني الورد إلا عطشا     روحه روحي وروحي فله إن يشا شئت وإن شئت يشا
                                                                                      وقال أبو عمر بن حيويه : لما أخرج الحلاج ليقتل ، مضيت وزاحمت حتى رأيته ، فقال لأصحابه : لا يهولنكم ; فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما . فهذه حكاية صحيحة توضح لك أن الحلاج ممخرق كذاب ، حتى عند قتله . وقيل : إنه لما أخرج للقتل أنشد : طلبت المستقر بكل أرض فلم أر لي بأرض مستقرا     أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا
                                                                                      قال أبو الفرج ابن الجوزي : جمعت كتابا سميته : " القاطع بمحال [ ص: 347 ] المحاج بحال الحلاج " . وبلغ من أمره أنهم قالوا : إنه إله ، وإنه يحيي الموتى .

                                                                                      قال الصولي : أول من أوقع بالحلاج الأمير أبو الحسين علي بن أحمد الراسبي ، وأدخله بغداد وغلاما له على جملين قد شهرهما في سنة إحدى وثلاثمائة ، وكتب معهما كتابا : إن البينة قامت عندي أن الحلاج يدعي الربوبية ، ويقول بالحلول . فحبس مدة .

                                                                                      قال الصولي : قيل : إنه كان في أول أمره يدعو إلى الرضا من آل محمد ، وكان يري الجاهل أشياء من شعبذته ، فإذا وثق منه دعاه إلى أنه إله .

                                                                                      وقيل : إن الوزير حامدا وجد في كتبه : إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيام وأفطر في رابع يوم على ورقات هندبا أغناه عن صوم رمضان ، وإذا صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى الغداة أغنته عن الصلاة بعد ذلك ، وإذا تصدق بكذا وكذا أغناه عن الزكاة .

                                                                                      ذكر ابن حوقل ، قال : ظهر من فارس الحلاج ينتحل النسك والتصوف ، فما زال يترقى طبقا عن طبق حتى آل به الحال إلى أن زعم : أنه من هذب في الطاعة جسمه ، وشغل بالأعمال قلبه ، وصبر عن اللذات ، وامتنع من الشهوات - يترق في درج المصافاة ، حتى يصفو عن البشرية طبعه ، فإذا صفا حل فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى ، فيصير مطاعا ، يقول للشيء : كن ، فيكون .

                                                                                      فكان الحلاج يتعاطى ذلك ويدعو إلى نفسه حتى استمال جماعة من الأمراء والوزراء ، وملوك الجزيرة والجبال والعامة ، ويقال : إن يده لما قطعت كتب الدم على الأرض : الله الله .

                                                                                      قلت : ما صح هذا ، ويمكن أن يكون هذا من فعله بحركة زنده .

                                                                                      قال محمد بن علي الصوري الحافظ : سمعت إبراهيم بن محمد بن [ ص: 348 ] جعفر البزاز يقول : سمعت أبا محمد الياقوتي يقول : رأيت الحلاج عند الجسر على بقرة ووجهه إلى ذنبها ، فسمعته يقول : ما أنا الحلاج ، ألقى الحلاج شبهه علي وغاب . فلما أدني من الخشبة التي يصلب عليها ، سمعته يقول :

                                                                                      يا معين الضنا علي     أعني على الضنا

                                                                                      قال أبو الحسين بن سالم : جاء رجل إلى سهل بن عبد الله ، وبيده محبرة وكتاب ، فقال لسهل : أحببت أن أكتب شيئا ينفعني الله به . فقال : اكتب : إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة فافعل . فقال : يا أبا محمد ، فائدة . فقال : الدنيا كلها جهل إلا ما كان علما ، والعلم كله حجة إلا ما كان عملا ، والعمل موقوف إلا ما كان على السنة ، وتقوم السنة على التقوى .

                                                                                      وعن أبي محمد المرتعش قال : من رأيته يدعي حالا مع الله باطنة ، لا يدل عليها أو يشهد لها حفظ ظاهر ، فاتهمه على دينه .

                                                                                      قيل : إن الحلاج كتب مرة إلى أبي العباس بن عطاء :

                                                                                      كتبت ولم أكتب إليك وإنما     كتبت إلى روحي بغير كتاب
                                                                                      وذاك لأن الروح لا فرق بينها     وبين محبيها بفصل خطاب
                                                                                      فكل كتاب صادر منك وارد     إليك بلا رد الجواب جوابي



                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية