الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 209 ] ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) ، هذا أمر معطوف على أمر في المعنى ، وهو : ولا تتخذوا آيات لله هزوا ، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة ، ولكنها بني عليها المصدر ، ويريد : النعم الظاهرة والباطنة ، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - و " ما أنزل عليكم " معطوف على نعمة ، وهو تخصيص بعد تعميم ؛ إذ ما أنزل هو من النعمة ، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد ، كقوله : ( وجبريل وميكال ) بعد ذكر الملائكة ، وتقدم القول فيه ، وأتى بـ " عليكم " تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم ؛ إذ في الحقيقة ما أنزل إلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه ومكلفين باتباعه ؛ صار كأنه نزل علينا . و " الكتاب " القرآن ، و " الحكمة " هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال . ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . قيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ؛ لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه ؛ فلا اجتهاد ، وذكر النعم لا يراد به سردها على اللسان ، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها ؛ لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون " عليكم " في موضع الحال ؛ فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا ، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا . وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون " عليكم " متعلقا بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدرا من " أنعم " على غير قياس ، كنبات من أنبت . و " عليكم " الثانية متعلقة بـ " أنزل " ، و " من " في موضع الحال ، أي : كائنا من الكتاب ، ويكون حالا من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف ؛ إذ تقديره : وما أنزل عليكم . ومن أثبت لـ " من " معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا ، كأنه قيل : وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة .

( يعظكم به ) : يذكركم به ، والضمير عائد على " ما " من قوله : " وما أنزل " ، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في " أنزل " ، والعامل فيها " أنزل " ، وجوزوا في " ما " من قوله : " وما أنزل " أن يكون مبتدأ . و " يعظكم " جملة في موضع الخبر ، كأنه قيل : والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وعطفه على النعمة أظهر . ( واتقوا الله ) ، لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء اللاتي هن مظنة الإهمال وعدم الرعاية ؛ أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : ( واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) ، والمعنى : بطلب العلم الديمومة عليه ؛ إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم . وكرر اسم الله في قوله تعالى : ( واتقوا الله ) ، ( واعلموا أن الله ) لكونه من جملتين ؛ فتكريره أفخم ، وترديده في النفوس أعظم .

( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ) ، قال ابن عباس ، والزهري ، والضحاك : نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها ، وقيل : نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله ، طلقها زوجها ، وانقضت عدتها فأراد رجعتها ، فأتى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها ؟ وكانت المرأة تريد زوجها ؛ فنزلت . وقيل : في معقل بن يسار ، وأخته جمل ، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان ، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته ، ذكر معناه البخاري . فعلى السبب الأول يكون المخاطبون هم الأزواج ، وعلى هذا السبب الأولياء ، وفيه بعد ؛ لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد ، وهو أن تكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع ، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار ، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في : ( وإذا طلقتم ) للأزواج ، وفي : ( فلا تعضلوهن ) للأولياء ؛ لتنافي التخاطب ، ولتنافر الشرط والجزاء ، فالأولى - والذي يناسبه سياق الكلام - أن الخطاب في الشرط [ ص: 210 ] والجزاء للأزواج ؛ لأن الخطاب من أول الآيات هو مع الأزواج ، ولم يجر للأولياء ذكر ؛ ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة ، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهن بعد انقضاء العدة ، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل ؛ إذ كانوا يفعلون ذلك ظلما وقهرا وحمية الجاهلية ، لا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج ، وعلى هذا يكون معنى : ( أن ينكحن أزواجهن ) أي : من يردن أن يتزوجنه ، فسموا أزواجا باعتبار ما يؤولون إليه ، وعلى القول بأن الخطاب للأولياء يكون أزواجهن هم المطلقون ، سموا أزواجا باعتبار ما كانوا عليه ، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدة أزواجا حقيقة . وجهات العضل من الزوج متعددة : بأن يجحد الطلاق ، أو يدعي رجعة في العدة ، أو يتوعد من يتزوجها ، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها ؛ فنهوا عن العضل مطلقا بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره . وقال الزمخشري : والوجه أن يكون خطابا للناس ، أي : لا يوجد فيما بينكم عضل ؛ لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين . وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية ، فقال : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ) ، الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الأزواج ، ومنهم الأولياء ؛ لأنهم المراد في تعضلوهن . انتهى كلامه . وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في " طلقتم " للأزواج ، وفي ( فلا تعضلوهن ) للأولياء ، وقد بينا ما فيه من التنافر .

( أن ينكحن أزواجهن ) ، هو في موضع نصب على البدل من الضمير ، بدل اشتمال ، أو على أن أصله : من أن ينكحن ، وينكحن مضارع نكح الثلاثي ، وفيه دلالة على أن للمرأة أن تنكح بغير ولي ؛ لأنه لو كان له حق لما نهي عنه ؛ فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق ، وظاهره العقد . وظاهر الآية إذا كان الخطاب في ( فلا تعضلوهن ) للأولياء النهي عن مطلق العضل ؛ فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد ، وقال مالك : إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلا . وقال أبو حنيفة : الثيب تزوج نفسها وتستوفي المهر ، ولا اعتراض للولي عليها ، وهو قول زفر . وإن كان غير كفء جاز ، وللأولياء أن يفرقوا بينهما . وعلى جواز النكاح بغير ولي : ابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة . وقال أبو يوسف : إن سلم الولي نكاحها جاز وإلا فلا ، إلا إن كان كفؤا فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم ، وهو قول محمد . وروي عن أبي يوسف غير هذا . وقال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلا ، وكان الزوج كفؤا ؛ فالنكاح جائز وليس للولي أن يفرق بينهما . وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن صالح : لا يجوز النكاح إلا بولي ، وهو مذهب الشافعي . وقال الليث : تزوج نفسها بغير ولي . وقال ابن القاسم عن مالك : إذا كانت معتقة ، أو مسكينة ، أو دنيئة ؛ فلا بأس أن تستخلف رجلا يزوجها ، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول ، وعنه خلاف بعد الدخول ، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوجها إلا الولي أو السلطان ، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه .

( إذا تراضوا ) ، الضمير عائد على الخطاب والنساء ، وغلب المذكر ؛ فجاء الضمير بالواو ، ومن جعل للأولياء ذكرا في الآية قالوا : احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج . والعامل في " إذا " ينكحن . ( بينهم بالمعروف ) ، الضمير في " بينهم " ظرف مجازي ناصبه ( تراضوا ) ، ( بالمعروف ) : ظاهره أنه متعلق بتراضوا ، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط ، وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد . ويجوز أن يتعلق ( بالمعروف ) بـ ( ينكحن ) لا بـ ( تراضوا ) ، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي ، بل هو من الفصل الفصيح ؛ لأنه فصل بمعمول الفعل ، وهو قوله : ( إذا تراضوا ) ، فإذا منصوب بقوله : ( أن ينكحن ) ، و ( بالمعروف ) متعلق به ؛ فكلاهما معمول للفعل . ( ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، " ذلك " : خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى [ ص: 211 ] خطاب الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل ، و " ذلك " : للبعد ، ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ، وإن كان الحكم قريبا ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى ( يوعظ به ) أي : يذكر به ، ويخوف . و " منكم " متعلق بكان ، أو بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في " يؤمن " ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ، الناهي لهم والآمر . و ( اليوم الآخر ) لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي ، وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلا المؤمن ؛ إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول : ( إنما يستجيب الذين يسمعون ) ، وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) .

( ذلكم أزكى لكم وأطهر ) ، أي : التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب ، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح ، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال . ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، أي : يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر ؛ لذلك نهى تعالى عن العضل ، قال معناه ابن عباس . أو يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب . أو يعلم بواطن الأمور ومآلها ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، إنما تعلمون ما ظهر . أو يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها . ويكون المقصود بذلك : تقرير الوعد والوعيد . قيل : وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة والبلاغة من علم البيان : الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل . الثاني : المقابلة في : ( فأمسكوهن بمعروف ) ، و ( ولا تمسكوهن ضرارا ) قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر ، فهذه مقابلة معنوية . الثالث : التكرار في : ( فبلغن أجلهن ) ، كرر اللفظ لتغيير المعنيين ، وهو غاية الفصاحة ؛ إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين . الرابع : الالتفات في : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) ، ثم التفت إلى الأولياء فقال : ( فلا تعضلوهن ) ، وفي الآية - في قوله : ذلك - إذا كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم التفت إلى الجمع في قوله " منكم " . الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير : أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا . السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار ، أو في أخت جابر ، وقيل " ابنته " .

التالي السابق


الخدمات العلمية