الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1766 [ ص: 69 ] حديث ثان لزياد بن سعد مرسل

مالك ، عن زياد بن سعد ، عن ابن شهاب أنه سمعه يقول : سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ما شاء الله ، ثم فرق بعد .

التالي السابق


هكذا رواه الرواة كلهم عن مالك مرسلا ، إلا حماد بن خالد الخياط فإنه وصله وأسنده وجعله عن مالك ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري ، عن أنس فأخطأ فيه ، والصواب فيه من رواية مالك الإرسال كما في الموطإ لا من حديث أنس ، وهو الذي يصححه أهل الحديث ، فأما رواية حماد بن خالد ، عن مالك فحدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران [ ص: 70 ] السراج ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن خالد الخياط ، حدثنا مالك ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري ، عن أنس ، قال : سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ما شاء الله أن يسدل ، ثم فرق بعد .

وهكذا رواه صالح بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه كما رواه أخوه عبد الله ، عن أبيه ، عن حماد بن خالد ، عن مالك ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري ، عن أنس .

ورواه إسحاق بن داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن حماد بن خالد ، عن مالك ، عن الزهري ، عن أنس . لم يذكر زياد بن سعد فأخطأ فيه أيضا .

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن علي بن الجارود ، قال : حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا حماد بن خالد ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، قال : حدثنا زياد بن سعد [ ص: 71 ] عن الزهري ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سدل ناصيته ما شاء الله أن يسدلها ، ثم فرق بعد .

قال أحمد بن حنبل : وهذا خطأ ، وإنما هو عن ابن عباس .

قال أبو عمر :

ما قاله أحمد فهو الصواب ، كذلك رواه يونس بن يزيد وإبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، حدثنا أحمد بن فتح بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء النيسابوري ، قال : حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الضحاك ، قال : حدثنا أبو مروان العثماني ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ، ثم فرق بعد .

وحدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : أخبرنا ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله [ ص: 72 ] عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه ، وكان أهل الكتاب يسدلون شعورهم ، وكان المشركون يفرقون شعورهم ، فسدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ، ثم فرق بعد .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا محمد بن جعفر الوركاني ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الكتاب يسدلون شعورهم ، وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به فسدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ، ثم فرق بعد .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا المطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله [ ص: 73 ] بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، فذكره .

وكذلك رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس مثله مرفوعا .

حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد بن مسرور ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا سحنون بن سعيد ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه .

ورواه معمر ، وابن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله مرسلا لم يذكرا ابن عباس .

قال محمد بن يحيى النيسابوري : والصحيح المحفوظ [ ص: 74 ] ما رواه يونس وإبراهيم بن سعد ، قال : وما أظن ابن عيينة سمعه من الزهري .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث من الفقه ترك حلق شعر الرأس وحبس الجمم ، وفيه دليل على أن حبس الجمة أفضل من الحلق ، لأن ما صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خاصته أفضل مما أقر الناس عليه ، ولم ينههم عنه ، لأنه في كل أحواله في خاصة نفسه على أفضل الأمور وأكملها ، وأرفعها ، صلى الله عليه وسلم .

وفيه أيضا من الفقه أن الفرق في الشعر سنة ، وأنه أولى من السدل ، لأنه آخر ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الفرق لا يكون إلا مع كثرة الشعر وطوله .

والناصية شعر مقدم الرأس كله , وسدله تركه منسدلا سائلا على هيئته ، والتفريق أن يقسم شعر ناصيته يمينا وشمالا , فتظهر جبهته وجبينه من الجانبين ، والفرق سنة مسنونة .

[ ص: 75 ] وقد قيل : إنها من ملة إبراهيم وسنته ، صلى الله عليه وسلم .

ذكر الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قول الله - عز وجل - : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، قال : الكلمات عشر خصال , خمس منها في الرأس , وخمس في الجسد ، فأما التي في الرأس ففرق الشعر وقص الشارب ، والسواك ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ، والاستنجاء ونتف الإبط وتقليم الأظافر .

وقوله ( فأتمهن ) أي عمل بهن .

قال أبو عمر :

يؤكد هذا قول الله - عز وجل - : ، ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا الآية ، وقوله - تبارك وتعالى - إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو منصور محمد بن سعد الماوردي ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن سلام [ ص: 76 ] ويحيى بن محمد بن صاعد ، قالا : حدثنا الجراح بن مخلد ، قال : حدثنا قريش بن إسماعيل بن زكرياء الكوفي ، قال : حدثنا الحارث بن عمران ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اختضبوا وفرقوا ، وخالفوا اليهود .

وهذا إسناد حسن ثقات كلهم .

وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن فطيس ، حدثنا يحيى بن إبراهيم ، حدثنا عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم عن مالك ، قال : رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وربيعة بن أبي عبد الرحمن وهشام بن عروة يفرقون شعورهم ، وكانت لهم شعور ، وكانت لهشام جمة إلى كتفيه .

حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد الليثي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة [ ص: 77 ] أقام على باب المسجد حرسا يجزون كل شين الهيئة في شعره لم يفرقه .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أبو بكر ( يعني الأثرم ) قال : سألت أبا عبد الله ( يعني أحمد بن حنبل ) عن صفة شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : جاء في الحديث أنه كان إلى شحمة أذنيه ، وفي بعض الحديث : إلى منكبيه ، وفي بعض الحديث أنه فرق ، قال : وإنما يكون الفرق إذا كان له شعر ، قال : وأحصيت عن ثلاثة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كان لهم شعر ، فذكر منهم أبا عبيدة بن الجراح وعمار بن ياسر ، والحسن ، والحسين ، وعن ابن مسعود أن شعره كان يبلغ ترقوته ، وأنه كان إذا صلى جعله وراء أذنيه .

قال أبو عمر :

فيما حكاه أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه أحصى من [ ص: 78 ] الصحابة ثلاثة عشر رجلا لهم شعر ، دليل على أن غيرهم - وهم الأكثر - لم يكن لهم شعر على تلك الهيئة ، والشعر الذي يشير إليه هي الجمة ، والوفرة ، وفي هذا دليل على إباحة الحلق ، وعلى حبس الشعر ، لأن الهيئتين جميعا قد أقر عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، ولم ينه عن شيء منهما ، فصار كل ذلك مباحا بالسنة ، وبالله التوفيق .

وأما الحلق المعروف عندهم فبالجلمين ، لأن الحلق بالموسى لم يكن معروفا عندهم في غير الحج ، والله أعلم .

هذا قول طائفة من أصحابنا ، وأما غيرهم فيقول : إن الحلق بالموسى لما كان سنة ونسكا في موضع وجب أن يتبرك به ويستحب على كل حال ، ولا يقضى بوجوبه سنة ولا نسكا إلا في ذلك الموضع ، ولا وجه لكراهية من كرهه ، ولا حجة معه من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وإنما هو رأي واستحسان جائز خلافه إلى مثله .

ذكر الحلواني قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه كان يستحب أن يوفر شعر رأسه إذا أراد الحج ، قال : وحدثنا عمرو بن عون [ ص: 79 ] عن هشيم عن يونس ، عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ شعره عند الإحرام ، وذكر موسى بن هارون الحمال ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا يحيى بن محمد البخاري ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن زيد أنه رأى أباه وأبا حازم وصفوان بن سليم ، وابن عجلان إذا دخل الصيف حلقوا رءوسهم ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وكان أبي إذا تخلف عن الحج حلق يوم الأضحى .

قال أبو عمر :

قد كان مالك - رحمه الله - يكره حلق القفا ، وما أدري إن كان كرهه مع حلق الرأس ، أو مفردا ، وهذا ليس من شرائع الأحكام ، ولا من الحلال والحرام ، والقول في حلق الرأس يغني عن القول في حلق القفا ، والقول في ذلك واحد عند العلماء ، والله أعلم .

وقد يجوز أن تكون كراهية مالك لحلق القفا هو أن يرفع في حلقه حتى يحلق بعض مؤخر الرأس على ما تصنعه الروم ، وهذا تشبه ، لأنا قد روينا عن مالك أنه قال : أول من حلق قفاه عندنا دراقس النصراني .

[ ص: 80 ] قال أبو عمر :

قد حلق الناس رءوسهم ، وتقصصوا وعرفوا كيف ذلك ، قرنا بعد قرن من غير نكير ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

صار أهل عصرنا لا يحبس الشعر منهم إلا الجند عندنا ، لهم الجمم والوفرات , وأضرب عنها أهل الصلاح والستر والعلم حتى صار ذلك علامة من علاماتهم وصارت الجمم اليوم عندنا تكاد تكون علامة السفهاء ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من تشبه بقوم فهو منهم ، أو : حشر معهم . فقيل : من تشبه بهم في أفعالهم ، وقيل : من تشبه بهم في هيئاتهم . وحسبك بهذا فهو مجمل في الاقتداء بهدي الصالحين على أي حال كانوا ، والشعر والحلق لا يغنيان يوم القيامة شيئا ، وإنما المجازاة على النيات والأعمال , فرب محلوق خير من ذي شعر , ورب ذي شعر رجلا صالحا ، وقد كان التختم في اليمين مباحا حسنا ، لأنه قد تختم به جماعة من السلف في اليمين كما تختم منهم جماعة في الشمال ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 81 ] الوجهان جميعا ، فلما غلبت الروافض على التختم في اليمين ، ولم يخلطوا به غيره كرهه العلماء منابذة لهم وكراهية للتشبه بهم لا أنه حرام ، ولا أنه مكروه ، وبالله التوفيق .

حدثنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم النبيل ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة أن رجلا سأله : كيف أصب على رأسي ؟ قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب على رأسه ثلاث حثيات ، قال : إن شعري كثير ، قال : كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيب .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، قال : حدثنا الخضر ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة ، قالت : كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الوفرة دون الجمة ، وقال أبو بكر الأثرم : حدثنا عفان ، قال : [ ص: 82 ] حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن أنس ، قال : كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب منكبيه .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيد ما بين منكبيه يبلغ شعره شحمة أذنيه .

وروى حميد عن أنس مثل حديث البراء سواء .




الخدمات العلمية