الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( 81 ) )

يقول تعالى ذكره : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة الحر ، وهي جمع ظل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، عن قتادة ، في قوله ( مما خلق ظلالا ) قال : الشجر .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) إي والله ، من الشجر ومن غيرها .

وقوله : ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) يقول : وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها ، وهي جمع كن .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( [ ص: 270 ] وجعل لكم من الجبال أكنانا ) يقول : غيرانا من الجبال يسكن فيها .

( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) يعني ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها . كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) من القطن والكتان والصوف .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( سرابيل تقيكم الحر ) قال : القطن والكتان .

وقوله : ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) يقول : ودروعا تقيكم بأسكم ، والبأس : هو الحرب ، والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) من هذا الحديد .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) قال : هي سرابيل من حديد .

وقوله : ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) يقول تعالى ذكره : كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم ، فكذا يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون . يقول : لتخضعوا لله بالطاعة ، وتذل منكم بتوحيده النفوس ، وتخلصوا له العبادة . وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ( لعلكم تسلمون ) بفتح التاء .

حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، قال : كان ابن عباس يقول : ( لعلكم تسلمون ) قال : يعني من الجراح .

حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا عباد بن العوام ، عن حنظلة السدوسي ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : ( لعلكم تسلمون ) من الجراحات ، قال أحمد بن يوسف : قال أبو عبيد : يعني بفتح التاء واللام .

فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه : كذلك يتم نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم ، لتسلموا من السلاح في حروبكم ، [ ص: 271 ] والقراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله ( لعلكم تسلمون ) وكسر اللام من أسلمت تسلم يا هذا ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليها .

فإن قال لنا قائل : وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحر ، فخص بالذكر الحر دون البرد ، وهي تقي الحر والبرد ، أم كيف قيل ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) وترك ذكر ما جعل لهم من السهل؟ قيل له : قد اختلف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك ، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندل على أولى الأقوال في ذلك بالصواب .

فروي عن عطاء الخراساني في ذلك ما حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، قال : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم ، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا ) وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال ، ألا ترى إلى قوله ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) ؟ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ألا ترى إلى قوله ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) يعجبهم من ذلك؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون به ، ألا ترى إلى قوله ( سرابيل تقيكم الحر ) وما تقي من البرد ، أكثر وأعظم؟ ولكنهم كانوا أصحاب حر ، فالسبب الذي من أجله خص الله تعالى ذكره السرابيل بأنها تقي الحر دون البرد على هذا القول ، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حر ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه ، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأخر .

وقال آخرون : ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر ، إذ كان معلوما عند المخاطبين به معناه ، وأن السرابيل التي تقي الحر تقي أيضا البرد وقالوا : ذلك موجود في كلام العرب مستعمل ، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر :


وما أدري إذا يممت وجها أريد الخير أيهما يليني

[ ص: 272 ] فقال : أيهما يليني : يريد الخير أو الشر ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشر .

وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم ، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدد نعمه التي أنعمها على الذين قصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم ، فذكر أياديه عندهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية