الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ثم قوله : كنا نفعل ، أو : كانوا يفعلون ، نحو قول ابن عمر : كنا نفاضل ، وكنا نخابر أربعين سنة . وقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه . فإن أضيف إلى عهد النبوة ، دل على جوازه ، أو وجوبه ، على حسب مفهوم لفظ الراوي ، إذ ذكره في معرض الاحتجاج يقتضي أنه بلغ النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ فأقره عليه ، وإلا لم يفد .

                ثم قوله : كانوا يفعلون . لا يفيد الإجماع عند بعض الشافعية ، ما لم يصرح به عن أهله ، وهو نقل له عند أبي الخطاب ، قال : ويقبل قول الصحابي : هذا الخبر منسوخ ، ويرجع في تفسيره إليه .

                التالي السابق


                قوله " وقول التابعي والصحابي ، في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته " ، سواء ، أي : قول الراوي : من السنة ، سواء كان تابعيا أو صحابيا ، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته ، سواء في أنه حجة ؛ لأن كلا منهما أضاف السنة إلى من تقوم الحجة بإضافتها إليه ، وهو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لكن الحجة في قول الصحابي أظهر منها في قول التابعي ، لعدم الواسطة ، وكونه شاهد ما لم يشاهد ، وكونه عدلا بالنص ، بخلاف التابعي في ذلك كله .

                وقولنا : " في حياة الرسول وبعد موته " هو تقسيم بالنسبة إلى الصحابي فقط ؛ لأنه الذي يصح أن يقول : من السنة ، والرسول حي أو ميت . أما التابعي ؛ فلا يصح أن يقول ذلك غالبا إلا والرسول ميت ؛ لأنه لو قاله والرسول حي ، لكان صحابيا ، اللهم إلا من شذ من كبار التابعين ، ممن عاصر الرسول ولم يلقه ، ككعب الأحبار ، [ ص: 197 ] وعبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي ، ونحوهما ؛ فهؤلاء يمكن أن يسمعوا السنة من الصحابة ، في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثم يقولون في حياته : من السنة كذا ، إلا أنه بعيد جدا ، ولم نعلم وقع منه شيء .

                قوله : " ثم قوله : كنا نفعل " ، هذه الرتبة الخامسة ، وهي قول الصحابي : كنا نفعل ، أو كانوا يفعلون كذا .

                نحو قول ابن عمر رضي الله عنهما : " كنا نفاضل على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فنقول : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ؛ فيبلغ ذلك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فلا ينكره " .

                [ ص: 198 ] وقوله : " كنا نخابر أربعين سنة " ، يعني : نزارع مخابرة ، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل خيبر في مزارعة أرضهم .

                " وقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه " ، أي : لا يقطعون السارق في الشيء اليسير ، حتى يبلغ نصابا شرعيا .

                قوله : " فإن أضيف " ، يعني قوله : كنا نفعل أو كانوا يفعلون ، " إلى عهد النبوة " ، بأن قال : كنا نفعل أو كانوا يفعلون على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، " دل على جوازه أو وجوبه " ، أي : جواز ما كانوا يفعلونه ، أو وجوبه " على حسب مفهوم لفظ الراوي " ، أي : على حسب ما فهم منه ، ودل عليه من جواز ، أو وجوب ، أو ندب .

                [ ص: 199 ] وإنما قلنا : إنه يدل على جوازه أو وجوبه ؛ لأن ذكره في معرض الاحتجاج ؛ يقتضي أنه بلغ النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ فأقر عليه ، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ، حجة كما سبق .

                قوله : " وإلا لم يفد " ، أي : وإن لم يضف قوله : كنا نفعل وكانوا يفعلون ، إلى عهد النبوة ، لم يفد أنه حجة ، إذ الحجة في إقرار النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو منتف في غير عهده ؛ فيحتمل أنه رأي رآه جماعة منهم ؛ فحكاه هذا الراوي عنهم ، ولفظه - وإن كان يقتضي اتفاق جميعهم عليه - غير أنه غير قاطع فيه ، بل هو مظنون ؛ فلذلك ساغ خلافه .

                قوله : " ثم قوله : كانوا يفعلون " ، إلى آخره . ليست هذه رتبة سادسة للفظ الراوي ؛ لأنها قد ذكرت في الرتبة الخامسة التي تكلمنا فيها آنفا ، بل هو كلام على هذه الصيغة ، من حيث إنها هل تفيد الإجماع أم لا ؟

                والكلام عليها أولا من حيث إنها حجة أم لا ؟ والحجة أعم من الإجماع .

                فالتقدير أن قول الراوي : كانوا يفعلون ، إن أضيف إلى عهد النبوة ؛ فهو حجة إقرارية ، وإن لم يضف إلى عهد النبوة ؛ فليس حجة إقرارية .

                وهل يكون حجة إجماعية ؟ فيه خلاف . فهذا معنى قوله : كانوا يفعلون " لا يفيد الإجماع عند بعض الشافعية " ، أي : لا يفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر ، ما لم يصرح بنقل الإجماع عن أهله ، وهم أهل الحل والعقد ، " وهو نقل له " ، أي : هذا اللفظ ، وهو قوله : كانوا يفعلون نقل للإجماع [ ص: 200 ] " عند أبي الخطاب " .

                قلت : يشبه أن النزاع لفظي ، وأنه إجماع ظني لا قطعي ؛ لأن هذا اللفظ يفيد إضافة الفعل إلى الجماعة ظنا لا قطعا . صرح به الآمدي في صيغة : كنا نفعل ، والصيغتان واحدة . ولقول أبي الخطاب قوة وظهور ، من جهة أن الراوي ؛ إنما يذكر هذه الصيغة في معرض الاحتجاج ، وهو إنما يحصل بفعل أهل الإجماع .

                قوله : " قال " - يعني أبا الخطاب - : " ويقبل قول الصحابي : هذا الخبر منسوخ ، ويرجع في تفسيره إليه " ، هاتان مسألتان :

                إحداهما : قبول قوله : هذا الخبر منسوخ ؛ لأنه نص على الإخبار بالنسخ نصا جازما ؛ فيحمل على علمه به ، دفعا للكذب عنه ، والغش والتلبيس منه على الناس .

                وقال الإمام فخر الدين : لا يقبل ، لاحتمال كون ذلك اجتهادا منه .

                وقال الكرخي : إن قال : هذا الخبر نسخ ذاك الخبر ، لم يقبل . وإن قال : هو منسوخ ، قبل ؛ لأنه لم يجد للاجتهاد مجالا ؛ فهو قاطع به . وضعف هذا إمام الحرمين .

                قلت : الاحتمال في قوله : هذا منسوخ ، قائم ؛ فهو يفيد النسخ ظنا لا قطعا .

                المسألة الثانية : أنه يرجع في تفسير الخبر إلى الصحابي ؛ لأنه أعلم بما سمع ، وسواء كان التفسير بقوله أو فعله كما فسر ابن عمر رضي الله عنهما حديث : المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا . بتفرق الأبدان ، حيث كان إذا باع أو اشترى شيئا ، [ ص: 201 ] يمشي خطوات ، ليلزم البيع ، وحديث : فإن غم عليكم فاقدروا له . بصومه يوم الغيم ، وربما جاءت هذه فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                تنبيه : قد بان من هذه الجملة ؛ أن لألفاظ الصحابي خمس مراتب :

                الأولى : أن يقول : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو حدثني ، ونحوه ، وهو يقتضي عدم الواسطة باتفاق .

                الثانية : قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                الثالثة : أن يقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا . وهاتان محمولتان على عدم الواسطة أيضا عند مالك والشافعي وأحمد .

                الرابعة : قوله : أمرنا أو نهينا ؛ فهو عند الثلاثة محمول على أمره عليه السلام ، خلافا للكرخي .

                الخامسة : قوله : كنا نفعل ، وكانوا يفعلون . إن أضيف إلى عهد النبوة ؛ فهو حجة إقرارية ، وإلا فلا .

                فأما قول الصحابي : عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فقيل : يحمل على سماعه منه ، وقيل : لا .

                [ ص: 202 ] ومأخذ الخلاف أن ( عن ) معناها المجاوزة ؛ فمعنى قوله : عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، جاوز القول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو غيرها ؛ فمن رجح تحسين الظن بالصحابي ، حمله على السماع ، ومن نظر إلى احتمال قيام الواسطة ، ورجح جانب الاحتياط ، لم يحمله عليه . وهذان الوجهان في غير الصحابي ؛ إذا قال : عن فلان ، ولم يعرف بتدليس ، فإن عرف بتدليس ؛ فالوجهان أيضا ، لكن يصير تدليسه قرينة مرجحة لعدم السماع ، وكان قتادة مدلسا ؛ فكان شعبة يراعي لفظه ، فإن قال : سمعت أنسا مثلا كتب عنه ، وإن قال : عن أنس ، لم يكتب .

                انتهى الكلام على مراتب لفظ الصحابي .




                الخدمات العلمية