الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي ) والشافعي يجمع بينهما حدا لقوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } ولأن فيه حسم باب الزنا لقلة المعارف . ولنا قوله تعالى { فاجلدوا } جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور ، [ ص: 242 ] ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه قطع مواد البقاء ، فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا ، وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله تعالى عنه : كفى بالنفي فتنة ، والحديث منسوخ كشطره ، [ ص: 243 - 244 ] وهو قوله عليه الصلاة والسلام { الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة } وقد عرف طريقه في موضعه . قال ( إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى ) وذلك تعزير وسياسة ; لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام ، وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة

التالي السابق


( قوله ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي والشافعي يجمع بينهما ) وكذا أحمد والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح . وله في العبد أقوال يغرب سنة ، نصف سنة ، لا يغرب أصلا . وأما تغريب المرأة فمع محرم وأجرته عليها في قول ، وفي بيت المال في قول . ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام ، وفي قول لا .

ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان لقوله صلى الله عليه وسلم { خذوا عني } الحديث ( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } ) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من رواية عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم { خذوا عني } الحديث ، وتقدم ( ولأن فيه حسم مادة الزنا لقلة المعارف ) ; لأنه هو الداعية إلى ذلك ، ولذا قيل لامرأة من العرب : ما حملك على الزنا مع فضل عقلك ؟ قالت : طول السواد وقرب الوساد .

والسواد المسارة من ساوده إذا ساره . ولنا قوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } [ ص: 242 ] شارعا في بيان حكم الزنا ما هو . فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا ، إذ يفهم أنه تمام الحكم وليس تمامه في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من ترك البيان ; لأنه يوقع في الجهل المركب وذلك في البسيط ولأنه هو المفهوم ; لأنه جعل جزاء للشرط فيفيد أن الواقع هذا فقط ، فلو ثبت معه شيء آخر كان شبهة معارضة لا مثبتة لما سكت عنه في الكتاب وهو الزيادة الممنوعة . وأما ما يفيده كلام بعضهم من أن الزيادة بخبر الواحد إثبات ما لم يوجبه القرآن وذلك لا يمنع وإلا بطلت أكثر السنن وأنها ليست نسخا وتسميتها نسخا مجرد اصطلاح ، ولذا زيد في عدة المتوفى عنها زوجها الإحداد على المأمور به في القرآن وهو التربص ، فهو يفيد عدم معرفة الاصطلاح ، وذلك أنه ليس المراد من الزيادة إثبات ما لم يثبته القرآن ولم ينفه .

لا يقول بهذا عاقل فضلا عن عالم ، بل تقييد مطلقه على ما عرف من أن الإطلاق مما يراد ، وقد دل عليه باللفظ المطلق ، وباللفظ يفاد المعنى ، فأفاد أن الإطلاق مراد وبالتقييد ينتفي حكمه عن بعض ما أثبته فيه اللفظ المطلق . ثم لا شك أن هذا نسخ ، وبخبر الواحد لا يجوز نسخ الكتاب ، وظن المعترض أن الإحداد زيادة غلط ; لأنه ليس تقييدا للتربص وإلا لو تربصت ولم تحد في تربصها حتى انقضت العدة لم تخرج عن العدة ، وليس كذلك بل تكون عاصية بترك واجب في العدة ، فإنما أثبت الحديث واجبا لا أنه قيد مطلق الكتاب . نعم ورد عليه أن هذا الخبر مشهور تلقته الأمة بالقبول فتجوز الزيادة به اتفاقا ، والمصنف رحمه الله عدل عن هذه الطريقة فلا يلزمه ذلك إلى ادعاء نسخ هذا الخبر مستأنسا له بنسخ شطره

[ ص: 243 ] الثاني وهو الدال على الجميع بين الجلد والرجم فكذا نصفه الآخر ، وأنت تعلم أن هذا ليس بلازم ، بل يجوز أن تروى جمل بعضها نسخ وبعضها لا . ولو سلك الطريق الأول وادعى أنه آحاد لا مشهور وتلقي الأمة بالقبول إن كان إجماعهم على العمل به فممنوع لظهور الخلاف ، وإن كان إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك فلم تخرج بذلك عن كونها آحادا ، وقد خطئ من ظنه يصير قطعيا فادعى فيما رواه البخاري ذلك وغلط على ما يعرف في موضعه ، وإذا كان آحادا وقد تطرق إليه احتمال النسخ بقرينة نسخ شطره فلا شك أنه ينزل عن الآحاد التي لم يتطرق ذلك إليها فأحرى أن لا ينسخ به ما أفاده الكتاب من أن جميع الموجب الجلد فإنه يعارضه فيه ، لا أن الكتاب ساكت عن نفي التغريب فكيف وليس فيه ما يدل على أن الواجب من التغريب بطريق الحد ، فإن أقصى ما فيه دلالة قوله { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } وهو عطف واجب على واجب وهو لا يقتضيه ، بل ما في البخاري من قول أبي هريرة { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام } وإقامة الحد ظاهر في أن النفي ليس في الحد لعطفه عليه ، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطفه على الجزء الآخر بعيد ولا دليل يوجبه ، وما ذكر من الألفاظ لا يفيده فجاز كونه تغريبا لمصلحة .

وأما مالك رحمه الله فرأى أن الحديث ما دل إلا على الرجل بقوله { البكر بالبكر } فلم تدخل المرأة ، ولا شك أنه كغيره من المواضع التي تثبت الأحكام في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط . وأيضا فإن نفس الحديث يجب أن يشملهن فإنه قال { خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر } الحديث ، فنص على أن النفي والجلد سبيل لهن ، والبكر يقال على الأنثى ; ألا ترى إلى قوله { البكر تستأذن } ثم عارض ما ذكر الشافعي من المعنى بأن في النفي فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحي منهم إن كان لها شهوة قوية فتفعله ، وقد تفعله لحامل آخر وهو حاجتها إلى ما يقوم بأودها ، ولا شك أن هذا المعنى في إفضائه إلى الفساد أرجح مما ذكره من إفضاء قلة المعارف إلى عدم الفساد خصوصا في مثل هذا الزمان لمن يشاهد أحوال النساء والرجال فيترجح عليه ، ويؤيده ما روى عبد الرزاق ومحمد بن الحسن في كتاب الآثار : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : قال عبد الله بن مسعود في البكر يزني بالبكر يجلدان مائة وينفيان سنة . قال : وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حسبهما من الفتنة أن ينفيا . وروى محمد بن الحسن : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : كفى بالنفي فتنة .

وروى عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال : غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر ، فقال عمر : لا أغرب بعده مسلما . نعم لو غلب على ظن الإمام مصلحة في التغريب تعزيرا له أن يفعله وهو محمل التغريب الواقع للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من أبي بكر وعمر وعثمان . ففي الترمذي : حدثنا كريب ويحيى بن أكثم قالا : حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن عمر ضرب وغرب } إلا أنه قال : حديث غريب .

وكذا رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله فرفعوه ، ورواه بعضهم عن ابن إدريس عن نافع عن ابن عمر : أن أبا بكر ضرب وغرب الحديث . وهكذا روي

[ ص: 244 ] من غير رواية ابن إدريس عن عبد الله بن عمر ومن رواية محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن أبا بكر لم يقولوا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ . وقال الدارقطني بعد أن ذكر رواية ابن نمير وأبي سعيد الأشج عن ابن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : إن أبا بكر ضرب وغرب الحديث . لم يقل فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم هي الصواب ، لكن روى النسائي : حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبد الله بن إدريس به مرفوعا ، ورواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وذكره ابن القطان من جهة النسائي وقال : رجاله ليس فيهم من يسأل عنه لثقته وشهرته ، وقال أيضا : عندي أن الحديث صحيح ، ولا يمتنع أن يكون عند ابن إدريس فيه عن عبد الله جميع ما ذكر . والحاصل أن في ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم اختلافا عن الحفاظ [ ص: 245 ] وأما عن أبي بكر وعمر فلا اختلاف فيه ، وقد أخرج ذلك عنهما أيضا في الموطأ . وأما روايته عن عثمان ففي مصنف ابن أبي شيبة : حدثنا جرير عن مغيرة عن ابن يسار مولى لعثمان قال : جلد عثمان امرأة في زنا ثم أرسل بها مولى له يقال له المهري إلى خيبر نفاها إليه . فهذا التغريب المروي عمن ذكرنا كتغريب عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج وغيره بسبب أنه لجماله افتتن به بعض النساء حتى سمع قول قائلة :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو من سبيل إلى نصر بن حجاج إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج

وذلك لا يوجب نفيا ، وعلى هذا كثير من المشايخ السلوك المحققين رضي الله عنهم ورضي عنا بهم وحشرنا معهم كانوا يغربون المريد إذا بدا منه قوة نفس ولجاج لتنكسر نفسه وتلين ، ومثل هذا المريد أو من هو قريب منه هو الذي ينبغي أن يقع عليه رأي القاضي في التغريب ; لأن مثله في ندم وشدة ، وإنما زل زلة لغلبة النفس . أما من لم يستح وله حال يشهد عليه بغلبة النفس فنفيه لا شك أنه يوسع طرق الفساد ويسهلها عليه .




الخدمات العلمية