الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور

استئناف لبيان جملة إنما يخشى الله من عباده العلماء الآية ، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء ، وقد تخلص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتبعوا الذكر وخشوا الرحمن بالغيب فإن حالهم مضاد لحال الذين لم يسمعوا القرآن ، وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئا . فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجماليا بقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ، وأجمل حسن جزائهم بذكر [ ص: 306 ] صفة " غفور " ولذلك ختمت هذه الآية بقوله إنه غفور شكور فصل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه .

فالمراد بـ الذين يتلون كتاب الله المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعرفوا به وهم المراد بالعلماء . قال تعالى بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وهو أيضا كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلا من صدق به وتلقاه باعتناء . وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف ، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه .

وكتاب الله القرآن ، وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته من تعظيم شأنه .

وأتبع ما هو علامة قبول الإيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة فإنها أعظم الأعمال البدنية ، ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإنفاق ، والمراد بالإنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها ، وما ورد الإنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ ، على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نصب ولا تحديد ثم حددت بالنصب والمقادير .

وجيء في جانب إقامة الصلاة والإنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه ، وامتثال الذي كلفوا يقتضي أنهم مداومون عليه .

وقوله مما رزقناهم إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة . ووقع الالتفات من الغيبة من قوله كتاب الله إلى التكلم في قوله مما رزقناهم لأنه المناسب للامتنان .

[ ص: 207 ] وانتصب سرا وعلانية على الصفة لمصدر " أنفقوا " محذوف ، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع .

والمعنى : أنهم لا يريدون من الإنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به ، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإنفاق .

وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه ، وذكر العلانية للإشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإنفاق فهم قد أعلنوا بالإيمان وشرائعه حب من حب أو كره من كره .

و يرجون تجارة هو خبر " إن " .

والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل : ليرجوا تجارة ، وزاده التعليل بقوله ليوفيهم أجورهم قرينة على إرادة التبشير .

والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق .

ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة .

والمعنى : ليرجوا أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة .

والبوار : الهلاك . وهلاك التجارة : خسارة التاجر . فمعنى لن تبور أنها رابحة . و لن تبور صفة تجارة ، والمعنى : أنهم يرجون عدم بوار التجارة .

فالصفة مناط التبشير والرجاء لا أصل التجارة ؛ لأن مشابهة العمل الفظيع لعمل التاجر شيء معلوم .

و " ليوفيهم " متعلق بـ " يرجون " ، أي بشرناهم بذلك وقدرناه لهم لنوفيهم أجورهم ووقع الالتفات من التكلم في قوله مما رزقناهم إلى الغيبة رجوعا إلى سياق الغيبة من قوله يتلون كتاب الله أي ليوفي الله الذين يتلون كتابه .

والتوفية : جعل الشيء وافيا ، أي تاما لا نقيصة فيه ولا غبن .

وأسجل عليهم الفضل بأنه يزيدهم على ما تستحقه أعمالهم ثوابا من فضله [ ص: 308 ] أي كرمه ، وهو مضاعفة الحسنات الواردة في قوله تعالى كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة الآية .

وذيل هذا الوعد بما يحققه وهو أن الغفران والشكران من شأنه ، فإن من صفاته الغفور الشكور ، أي الكثير المغفرة والشديد الشكر .

فالمغفرة تأتي على تقصير العباد المطيعين ، فإن طاعة الله الحق التي هي بالقلب والعمل والخواطر لا يبلغ حق الوفاء بها إلا المعصوم ولكن الله تجاوز عن الأمة فيما حدثت به أنفسها ، وفيما همت به ولم تفعله . وفي اللمم ، وفي محو الذنوب الماضية بالتوبة ، والشكر كناية عن مضاعفة الحسنات على أعمالهم فهو يشكر بالعمل لأن الذي يجازي على عمل عمله المجزي بجزاء وافر يدل جزاؤه على أنه حمد للفاعل فعله .

وأكد هذا الخبر بحرف التأكيد زيادة في تحقيقه ، ولما في التأكيد من الإيذان بكون ذلك علة لتوفية الأجور والزيادة فيها .

وفي الآية ما يشمل ثواب قراء القرآن ، فإنهم يصدق عنهم أنهم من الذين يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة ولو لم يصاحبهم التدبر في القرآن فإن للتلاوة حظها من الثواب والتنور بأنوار كلام الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية