الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 162 ] السادسة عشرة : قيل : لما قضى داود بينهما في المسجد ، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود ، فأحبا أن يعرفهما ، فصعدا إلى السماء حيال وجهه ، فعلم داود - عليه السلام - أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، ونبهه على ما ابتلاه .

قلت : وليس في القران ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية ، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد ، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك . ويقول : انصرفا إلى موضع القضاء . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء يقضون في المسجد ، وقد قال مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم . يعني في أكثر الأمور . ولا بأس أن يجلس في رحبته ، ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض ، ولا يقيم فيه الحدود ، ولا بأس بخفيف الأدب . وقد قال أشهب : يقضي في منزله وأين أحب .

السابعة عشرة : قال مالك رحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم ، وأول من استقضى معاوية . قال مالك : وينبغي للقضاة مشاورة العلماء . وقال عمر بن عبد العزيز : لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى ، مستشيرا لذوي الرأي ، حليما نزها . قال : ويكون ورعا . قال مالك : وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل ، وأن يكون عالما بالشروط ، عارفا بما لا بد له منه من العربية ، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له . وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب : أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا ، حكم عليه ، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة . وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع .

الثامنة عشرة : قوله تعالى : فاستغفر ربه اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة :

[ الأول ] أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها . قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنته النظرة . قال أبو إسحاق : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، فصارت الأولى له والثانية عليه .

[ الثاني ] أنه أغزى زوجها في حملة التابوت .

[ الثالث ] أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها .

[ الرابع ] أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا . فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها . وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة .

[ الخامس ] أنه لم يجزع على قتل أوريا ، كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله تعالى على ذلك ; لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي [ ص: 163 ] عظيمة عند الله .

[ السادس ] أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر .

قال القاضي ابن العربي : أما قول من قال : إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء ، وكذلك تعريض زوجها للقتل . وأما من قال : إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال ; لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لو سمعت رجلا يذكر أن داود - عليه السلام - قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة ; لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا . قال الثعلبي : وقال الحارث الأعور عن علي : من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين ، لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله ، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين ، وحجة للمجتهدين . قال ابن العربي : وهذا مما لم يصح عن علي . فإن قيل : فما حكمه عندكم ؟ قلنا : أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل ، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة ، فقد اختلف نقل الناس في ذلك ، فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته ، فإنه يناقض التعزير المأمور به ، فأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة ، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة ; لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها ، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها . وأما قولهم : إنه نوى إن مات زوجها تزوجها ، فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت . وأما قولهم : إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها . وقد روى أشهب عن مالك قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود - عليه السلام - وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده ، ثم صنع مثل ذلك مرتين ، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل ، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه . قال ابن العربي : وأما قول المفسرين : إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه ، فهذا لا يناقض العبادة ; لأنه مباح فعله ، لا سيما وهو حلال ، وطلب الحلال فريضة ، وإنما اتبع الطير لذاته لا لجماله ، فإنه لا منفعة له فيه ، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة . أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه ; لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح : ( إن أيوب - عليه السلام - كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه ، فقال الله تعالى له : " يا أيوب ألم أكن أغنيتك " قال : ( بلى يا رب [ ص: 164 ] ولكن لا غنى لي عن بركتك ) . وقال القشيري : فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت ، وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم .

التاسعة عشرة : قوله تعالى : وخر راكعا وأناب أي خر ساجدا ، وقد يعبر عن السجود بالركوع . قال الشاعر :


فخر على وجهه راكعا وتاب إلى الله من كل ذنب



قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود ، فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل على الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته ، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر ، فسمي السجود ركوعا . وقال المهدوي : وكان ركوعهم سجودا . وقيل : بل كان سجودهم ركوعا . وقال مقاتل : فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل . أي : لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة ، ثم وقع من الركوع إلى السجود ، لاشتمالهما جميعا على الانحناء . وأناب أي : تاب من خطيئته ورجع إلى الله . وقال الحسن بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله - عز وجل - : " وخر راكعا " فهل يقال للراكع خر ؟ .

قلت : لا . قال : فما معنى الآية ؟ قلت : معناها فخر بعد أن كان راكعا أي : سجد .

الموفية عشرين : واختلف في سجدة داود ، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها توبة نبي ، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود ، ونزل وسجد . وهذا لفظ أبي داود . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال : " ص " ليست من عزائم القرآن ، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها . وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال : " ص " توبة نبي ، ولا يسجد فيها ، وعن ابن عباس : أنها توبة نبي ، ونبيكم ممن أمر أن يقتدي به . قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به . ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه ، معترفا بذنبه . تائبا من خطيئته ، فإذا [ ص: 165 ] سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية ، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه ، وسواء قلنا : إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد . والله أعلم .

الحادية والعشرون : قال ابن خويز منداد : قوله : وخر راكعا وأناب فيه دلالة على أن السجود للشكر مفردا لا يجوز ; لأنه ذكر معه الركوع ، وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا ، فأما سجدة مفردة فلا ، وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده ، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا ، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة .

قلت : وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين . وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله . وهذا قول الشافعي وغيره . الثانية والعشرون : روى الترمذي وغيره واللفظ للغير : أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا ، وارزقني بها شكرا .

قلت : خرج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم ، كأني أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها تقول : اللهم احطط بها عني وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا . قال ابن عباس فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ " السجدة " [ ص: 166 ] فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة . ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلت : يا رسول الله ، رأيتني في النوم كأني تحت شجرة ، والشجرة تقرأ " ص " فلما بلغت السجدة سجدت فيها ، فسمعتها تقول في سجودها : اللهم اكتب لي بها أجرا ، وحط عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته . فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفسجدت أنت يا أبا سعيد فقلت : لا والله يا رسول الله . فقال : لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة . ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - " ص " حتى بلغ السجدة فسجد ، ثم قال مثل ما قالت الشجرة .

الثالثة والعشرون : قوله تعالى : فغفرنا له ذلك أي فغفرنا له ذنبه . قال ابن الأنباري : فغفرنا له ذلك تام ، ثم تبتدئ " وإن له " وقال القشيري : ويجوز الوقف على فغفرنا له ثم تبتدئ ذلك وإن له كقوله : هذا وإن للطاغين أي الأمر ذلك . وقال عطاء الخراساني وغيره : إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي : أجائع فتطعم ، أو أعار فتكسى ، فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها . فقال : يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاما ، ونساءهم أرامل ؟ قال : يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم ، أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة . قال : يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة . ثم قيل : يا داود ارفع رأسك . فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها . رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء . قال الوليد : وأخبرني منير بن الزبير ، قال : فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله . قال الوليد قال ابن لهيعة : فكان يقول في سجوده : سبحانك هذا شرابي دموعي ، وهذا طعامي في رماد بين يدي . في رواية : إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه . وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه ، وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : يا رب ، داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم [ ص: 167 ] ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فقال له جبريل بعد أربعين سنة : يا داود ، إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به وقال وهب : إن داود - عليه السلام - نودي إني قد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال : لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا . فقال الله لجبريل : اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه . فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى : يا أوريا ، فقال : لبيك! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال : أنا أخوك داود ، أسألك أن تجعلني في حل ، فإني عرضتك للقتل . قال : عرضتني للجنة فأنت في حل . وقال الحسن وغيره : كان داود - عليه السلام - بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول : تعالوا إلى داود الخطاء ، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه . وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين . وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر . ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله . وقال : يا رب اجعل خطيئتي في كفي ، فصارت خطيئته منقوشة في كفه . فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه . وروى الوليد بن مسلم : حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ، ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض .

قال الوليد : وحدثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين ، إن كان يقول : اللهم لا تغفر للخطائين . ثم صار إلى أن يقول : اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم ، سبحان خالق النور . إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي ، فكلهم عليك يدلني . إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ، سبحان خالق النور . إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي .

وفي الخبر : أن داود - عليه السلام - كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ، فكان ينادي : إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، رب اغفر للخاطئين كي تغفرلداود معهم . وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من [ ص: 168 ] الأفرشة كلها . وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رءوس الجبال وأفواه الغيران : ألا إن هذا يوم نوح داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده ، فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره ، والوحوش والسباع والطير عكف ، وبنو إسرائيل حول منبره ، فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم . ومات داود - عليه السلام - فيما قيل يوم السبت فجأة ، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ، فقال : جئت لأقبض روحك . فقال : دعني حتى أنزل أو أرتقي . فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا . قال : فسجد داود على مرقاة من الدرج ، فقبض نفسه على تلك الحال . وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة . وقيل : تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة .

الرابعة والعشرون : قوله تعالى : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة . وحسن مآب قالا : والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود . وقال مجاهد عن عبد الله بن عمر : الزلفى الدنو من الله - عز وجل - يوم القيامة . وعن مجاهد : يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده : فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى . قال : ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، حتى يقرب فيسكن ، فذلك قوله - عز وجل - : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ذكره الترمذي الحكيم . قال : حدثنا الفضل بن محمد ، قال حدثنا عبد الملك بن الأصبغ قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره . قال الترمذي : ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله : ربنا عجل لنا قطنا والقط الصحيفة في اللغة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم : فأما من أوتي كتابه بيمينه وقال لهم : ( إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم ) قالوا : ربنا عجل لنا قطنا أي : صحيفتنا قبل يوم الحساب قال الله تعالى : اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول : أمره بالصبر على ما قالوا ، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد [ ص: 169 ] من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله له يوما فألهمته : أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ، وقالوا : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده داود ، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال : فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها . وقد روينا في الحديث : إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال : هاهنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن .

التالي السابق


الخدمات العلمية