الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 100 ] ثم قال : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) وفيه قراءتان ؛ قرأ حمزة " ولا أصغر ولا أكبر " بالرفع فيهما ، والباقون بالنصب .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ) تقديره : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ، فلفظ " مثقال " عند دخول كلمة " من " عليه مجرور ، بحسب الظاهر ، ولكنه مرفوع في المعنى ، فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجرورا ، إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف ، فكان مفتوحا ، وإن عطف على المحل ، وجب كونه مرفوعا ، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل ، وكذا قوله : ( ما لكم من إله غيره ) وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            فلسنا بالجبال ولا الحديدا



                                                                                                                                                                                                                                            هذا ما ذكره النحويون . قال صاحب " الكشاف " : لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب . وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله تعالى ، وإنه باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المخلوقة على قسمين : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسماوات والأرض ، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فقوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالما بها محيطا بأحوالها ، والغرض منه الرد على من يقول : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات ، وهو المراد من قوله : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) [ الجاثية : 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني في الجواب : أن نجعل كلمة " إلا " في قوله : ( إلا في كتاب مبين ) استثناء منقطعا ، لكن بمعنى هو في كتاب مبين .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكر أبو علي الجرجاني صاحب " النظم " عنه جوابا آخر فقال : قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) ههنا تم الكلام وانقطع . ثم وقع الابتداء بكلام آخر ، وهو قوله : ( إلا في كتاب مبين ) أي وهو أيضا في كتاب مبين .

                                                                                                                                                                                                                                            قال : والعرب تضع " إلا " موضع " واو النسق " كثيرا على معنى الابتداء ، كقوله تعالى : ( لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) [ النمل : 10 - 11] يعني ، ومن ظلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ) [ البقرة : 150 ] يعني والذين ظلموا . وهذا الوجه في غاية التعسف .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب صاحب " الكشاف " بوجه رابع فقال : الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) على قوله : ( من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل ، لكنا [ ص: 101 ] لا نقول ذلك ، بل نقول : الوجه في القراءة بالنصب في قوله : ( ولا أصغر من ذلك ) الحمل على نفي الجنس ، وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء ، وخبره قوله : ( في كتاب مبين ) وهذا الوجه اختيار الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية