الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل أرايتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينات منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا لم يزل الكلام موجها لخطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - . ولما جرى ذكر المشركين وتعنتهم وحسبان أنهم مقتوا المسلمين عاد إلى الاحتجاج عليهم في بطلان إلهية آلهتهم بحجة أنها لا يوجد في الأرض شيء يدعي [ ص: 324 ] أنها خلقته ، ولا في السماوات شيء لها فيه شرك مع الله ، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحاجهم ويوجه الخطاب إليهم بانتفاء صفة الإلهية عن أصنامهم ، وذلك بعد أن نفى استحقاقها لعبادتهم بأنها لا ترزقهم كما في أول السورة ، وبعد أن أثبت الله التصرف في مظاهر الأحداث الجوية والأرضية واختلاف أحوالها من قوله والله الذي أرسل الرياح ، وذكرهم بخلقهم وخلق أصلهم وقال عقب ذلك ذلكم الله ربكم له الملك الآية عاد إلى بطلان إلهية الأصنام .

وبنيت الحجة على مقدمة مشاهدة انتفاء خصائص الإلهية عن الأصنام ، وهي خصوصية خلق الموجودات وانتفاء الحجة النقلية بطريقة الاستفهام التقريري في قوله أرأيتم شركاءكم يعني : إن كنتم رأيتموهم فلا سبيل لكم إلا الإقرار بأنهم لم يخلقوا شيئا .

والمستفهم عن رؤيته في مثل هذا التركيب في الاستعمال هو أحوال المرئي وإناطة البصر بها ، أي أن أمر المستفهم عنه واضح باد لكل من يراه كقوله أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم وقوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلخ . والأكثر أن يكون ذلك توطئة لكلام يأتي بعده يكون هو كالدليل عليه أو الإيضاح له أو نحو ذلك ، فيؤول معناه بما يتصل به من كلام بعده ، ففي قوله هنا أرأيتم شركاءكم تمهيد لأن يطلب منهم الإخبار عن شيء خلقه شركاؤهم فصار المراد من أرأيتم شركاءكم انظروا ما تخبرونني به من أحوال خلقهم شيئا من الأرض ، فحصل في قوله أرأيتم شركاءكم إجمال فصله قوله أروني ماذا خلقوا من الأرض فتكون جملة أروني ماذا خلقوا بدلا من جملة أرأيتم شركاءكم بدل اشتمال أو بدل مفصل من مجمل .

والمراد بالشركاء من زعموهم شركاء الله في الإلهية فلذلك أضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين ، أي الشركاء عندكم ، لظهور أن ليس المراد أن الأصنام شركاء مع المخاطبين بشيء فتمحضت الإضافة لمعنى مدعيكم شركاء لله .

والموصول والصلة في قوله الذين تدعون من دون الله للتنبيه على الخطأ في تلك الدعوة كقول عبدة بن الطبيب :

[ ص: 325 ]

إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا



وقرينة التخطئة تعقيبه بقوله أروني ماذا خلقوا من الأرض فإنه أمر للتعجيز إذ لا يستطيعون أن يروه شيئا خلقته الأصنام ، فيكون الأمر التعجيزي في قوة نفي أن خلقوا شيئا ما ، كما كان الخبر في بيت عبدة الوارد بعد الصلة قرينة على كون الصلة للتنبيه على خطأ المخاطبين .

وفعل الرؤية قلبي بمعنى الإعلام والإنباء ، أي أنبئوني شيئا مخلوقا للذين تدعون من دون الله في الأرض .

و ( ماذا ) كلمة مركبة من " ما " الاستفهامية و " ذا " التي بمعنى الذي ، حين تقع بعد اسم استفهام ، وفعل الإراءة معلق عن العمل في المفعول الثاني والثالث بالاستفهام . والتقدير : أروني شيئا خلقوه مما في الأرض .

و ( من ) ابتدائية ، أي شيئا ناشئا من الأرض ، أو تبعيضية على أن المراد بالأرض ما عليها كإطلاق القرية على سكانها في قوله واسأل القرية .

و أم منقطعة للإضراب الانتقالي ، وهي تؤذن باستفهام بعدها . والمعنى : بل ألهم شرك في السماوات .

والشرك بكسر الشين : اسم للنصيب المشترك به في ملك شيء .

والمعنى : ألهم شرك مع الله في ملك السماوات وتصريف أحوالهما كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر .

ولما كان مقر الأصنام في الأرض كان من الراجح أن تخيل لهم الأوهام تصرفا كاملا في الأرض فكأنهم آلهة أرضية ، وقد كانت مزاعم العرب واعتقاداتهم أفانين شتى مختلطة من اعتقاد الصابئة ومن اعتقاد الفرس واعتقاد الروم فكانوا أشباها لهم فلذلك قيل لأشباههم في الإشراك أروني ماذا خلقوا من الأرض أي فكان تصرفهم في ذلك تصرف الخالقية ، فأما السماوات فقلما يخطر ببال المشركين أن للأصنام تصرفا في شئونها ، ولعلهم لم يدعوا ذلك ولكن جاء قوله أم لهم شرك في السماوات مجيء تكملة الدليل على الفرض والاحتمال ، كما يقال في آداب البحث " فإن قلت " وقد كانوا ينسبون للأصنام بنوة لله تعالى قال تعالى [ ص: 326 ] أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان .

فمن أجل ذلك جيء في جانب الاستدلال على انتفاء تأثير الأصنام في العوالم السماوية بإبطال أن يكون لها شرك في السماوات لأنهم لا يدعون لها في مزاعمهم أكثر من ذلك .

ولما قضى حق البرهان العقلي على انتفاء إلهية الذين يدعون من دون الله انتقل إلى انتفاء الحجة السمعية من الله تعالى المثبتة آلهة دونه ؛ لأن الله أعلم بشركائه وأنداده لو كانوا ، فقال تعالى أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه المعنى : بل آتيناهم كتابا فهم يتمكنون من حجة فيه تصرح بإلهية هذه الآلهة المزعومة .

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم " على بينات " بصيغة الجمع . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب على بينة بصيغة الإفراد . فأما قراءة الجمع فوجهها أن شأن الكتاب أن يشتمل على أحكام عديدة ومواعظ مكررة ليتقرر المراد من إيتاء الكتب من الدلالة القاطعة بحيث لا تحتمل تأويلا ولا مبالغة ولا نحوها على حد قول علماء الأصول في دلالة الأخبار المتواترة دلالة قطعية ، وأما قراءة الإفراد فالمراد منها جنس البينة الصادق بأفراد كثيرة .

ووصف البينات أو البينة بـ ( منه ) دلالة على أن المراد كون الكتاب المفروض إيتاؤه مشتملا على حجة لهم تثبت إلهية الأصنام . وليس مطلق كتاب يؤتونه أمارة من الله على أنه راض منهم بما هم عليه كدلالة المعجزات على صدق الرسول ، وليست الخوارق ناطقة بأنه صادق فأريد : آتيناهم كتابا ناطقا مثل ما آتينا المسلمين القرآن .

ثم كر على ذلك كله الإبطال بواسطة " بل " ، بأن ذلك كله منتف وأنهم لا باعث لهم على مزاعمهم الباطلة إلا وعد بعضهم بعضا مواعيد كاذبة يغر بعضهم بها بعضا .

والمراد بالذين يعدونهم رؤساء المشركين وقادتهم ، وبالموعودين عامتهم ودهماؤهم [ ص: 327 ] أو أريد أن كلا الفريقين واعد وموعود في الرؤساء ، وأيمة الكفر يعدون العامة نفع الأصنام وشفاعتها وتقريبها إلى الله ونصرها غرورا بالعامة ، والعامة تعد رؤساءها التصميم على الشرك ، قال تعالى حكاية عنهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها .

و ( إن ) نافية ، والاستثناء مفرع عن جنس الوعد محذوفا .

وانتصب غرورا على أنه صفة للمثنى المحذوف . والتقدير : إن يعد الظالمون بعضهم بعضا وعدا إلا وعدا غرورا .

والغرور تقدم معناه عند قوله تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد في آل عمران .

التالي السابق


الخدمات العلمية