الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) ، الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وتلوين في الضمير ؛ لأن قبله : ( فإن أرادا فصالا ) بضمير التثنية ، وكأنه رجوع إلى قوله : " والوالدات " ، " وعلى المولود له " . و " استرضع " فيه خلاف ، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر ، قولان : فالأول : قول الزمخشري ، قال : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول . انتهى كلامه . وهو نقل من نقل ، الأصل رضع الولد ، ثم تقول : أرضعت المرأة الولد ، ثم تقول : استرضعت المرأة الولد ، واستفعل هنا للطلب ، أي : طلبت من المرأة إرضاع الولد ، كما تقول استسقيت زيدا الماء ، واستطعمت عمرا الخبز ، أي : طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني ، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض ، كذلك " أولادكم " منصوب لا على إسقاط الخافض . والثاني : قول الجمهور ، وهو أن يتعدى إلى اثنين ، الثاني بحرف جر ، وحذف من قوله : " أولادكم " ، والتقدير : لأولادكم ، وقد جاء استفعل أيضا للطلب معدى بحرف الجر في الثاني ، وإن كان في " أفعل " معدى إلى اثنين ، تقول : أفهمني زيد المسألة ، واستفهمت زيدا عن المسألة ، فلم يجئ : استطعمت ، ويصير نظير : استغفرت الله من الذنب ، ويجوز حذف " من " فتقول : الذنب ، وليس في قولهم : كان فلان مسترضعا في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه ، أو بحرف جر . ( فلا جناح عليكم ) ، هذا جواب الشرط ، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى ، التقدير : فاسترضعتم أو فعلتم ذلك ؛ فلا جناح عليكم في الاسترضاع ( إذا سلمتم ) ما آتيتم ، هذا خطاب للرجال خاصة ، وهو من تلوين الخطاب ، وقيل : هو خطاب للرجال والنساء ، ويتضح ذلك في تفسير قوله : ( ما آتيتم ) . و ( إذا سلمتم ) شرط ، قالوا : وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه ، وذلك المعنى هو العامل في " إذا " ، وهو متعلق بما تعلق به " عليكم " . انتهى . وظاهر هذا الكلام خطأ ؛ لأنه جعل العامل في إذا أولا المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه ، ثم قال ثانيا : إن " إذا " تتعلق بما تعلق به " عليكم " ، وهذا يناقض ما قبله ، ولعل قوله : وهو متعلق ، سقطت منه ألف ، وكان : أو هو متعلق ، فيصح إذ ذاك المعنى ؛ ولا تكون إذ ذاك شرطا ، بل تتمحض للظرفية . وقرأ ابن كثير : " ما أتيتم " بالقصر ، وقرأ باقي السبعة بالمد ، وتوجيه قراءة ابن كثير : أن " أتيتم " بمعنى جئتموه وفعلتموه ، يقال : أتى جميلا ، أي : فعله ، وأتى إليه إحسانا : فعله ، وقال : ( إن وعده كان مأتيا ) ، أي : مفعولا ، وقال زهير :


فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل



وتوجيه المد أن المعنى : ما أعطيتم ، و " ما " في الوجهين موصولة بمعنى الذي ، والعائد عليها محذوف ، وإذا [ ص: 219 ] كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان ؛ لأنها تتعدى لاثنين ، أحدهما ضمير " ما " ، والآخر الذي هو فاعل من حيث المعنى ، والمعنى في : " ما آتيتم " ، أي : ما أردتم إتيانه أو إيتاءه . ومعنى الآية - والله أعلم - جواز الاسترضاع للولد غير أمه ، إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه ، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف ؛ فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع ، قاله السدي ، و سفيان . وليس التسليم شرطا في جواز الاسترضاع والصحة ، بل ذلك على سبيل الندب ؛ لأن في إيتائها الأجرة معجلا هنيا توطينا لنفسها واستعطافا منها على الولد ؛ فتثابر على إصلاح شأنه . وقيل : سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان ، قاله قتادة ، والزهري ، وفيه بعد ؛ لإطلاق " ما " الموضوعة لما لا يعقل على العاقل . وقيل : سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع ، قاله مجاهد . وقيل : سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف ، قاله قتادة . وأجاز أبو علي : في " ما آتيتم " أن تكون " ما " مصدرية ، أي : إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى مع القصر ، وكون " ما " بمعنى الذي أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم : " أوتيتم " مبنيا للمفعول ، أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ونحوها . قال تعالى : ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) ، ويتعلق " بالمعروف " بـ " سلمتم " ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي . وقيل : تتعلق بـ " آتيتم " . قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ؛ كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ؛ والاستصلاح لأبدانهن ؛ ولاستعجال الولد بحصول الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : ( إذا سلمتم ) .

( واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) ، لما تقدم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقا بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ؛ حذر وهدد بقوله : ( واعلموا ) ، وأتى بالصفة التي هي " بصير " مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : ( ولتصنع على عيني ) في حق موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - إذ كان طفلا . قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ؛ منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : ( والوالدات يرضعن ) ؛ فإنه خبر معناه الأمر على قول الأكثر ، والتأكيد بـ " كاملين " ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهن ؛ لأنهن سبب توصل ذلك ، والإيجاز في : ( وعلى الوارث مثل ذلك ) ، وتلوين الخطاب في : ( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم ) ؛ فإنه خطاب للآباء والأمهات ، ثم قال : ( إذا سلمتم ) ، وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : ( أن تسترضعوا ) ، التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : ( إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) . انتهى . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا انقضاء العدة بإمساكهن ، وهو مراجعتهن بمعروف ، أو بتخلية سبيلهن بانقضاء العدة ، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف ، بأن نص على النهي عن إمساكهن ضرارا بهن ، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في الجاهلية من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق ؛ على سبيل المضارة للنساء ، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيما لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه ، أي : إن إمساك النساء على سبيل المضارة ، وتطويل عدتهن ، إنما وبال ذلك في الحقيقة على نفسه ؛ حيث ارتكب ما نهى الله عنه ، ثم نهى [ ص: 220 ] تعالى عن اتخاذ آيات الله هزوا ؛ لأنه تعالى قد أنزل آيات في النكاح ، والحيض ، والإيلاء ، والطلاق ، والعدة ، والرجعة ، والخلع ، وترك المضارة ، وتضمنت أحكاما بين الرجال والنساء ، وإيجاب حقوق لهم وعليهم ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء ، حتى كانوا لا يورثون البنات احتقارا لهن ، وذكر قبل هذا أن من تعدى حدود الله فهو ظالم ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله هزوا ، بل تؤخذ بجد وقبول ، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته ، تنبيها على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من الآيات بالقبول ؛ ليكون ذلك شكرا لنعمته السابقة ، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم ؛ فينبغي قبوله والانتهاء عنده ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم ، فهو لا يخفى عنه شيء من أفعالكم ، وهو يجازيكم عليها . ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدتهن لا تعضلوهن عن تزوج من أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها ، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة وبتها يعضلها عن التزوج بغيره ، ثم أشار بقوله ذلك إلى العضل ، وذكر أنه يوعظ به المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ؛ لأن من لم يكن مؤمنا لم يزدجر عن ما نهى الله عنه ، ونبه على الإيمان باليوم الآخر ؛ لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في الدار الآخرة ، ثم أشار بقوله : ( ذلكم أزكى لكم ) إلى التمكين من التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى ، وأطهر لما يخشى من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج ، ثم نسب العلم إليه تعالى ونفاه عن المخاطبين ؛ إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها . ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج ، من إرضاع الوالدات أولادهن ، وذكر حد ذلك لمن أراد الإتمام ، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من النفقة والكسوة ، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة ، وذكر جواز فصله وفطامه ، إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين ، وجواز الاسترضاع للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك ، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييبا لأنفسهن وإعانة لهن على محبة الصغير ، واشتمالهن عليه حتى ينشأ ، كأنه قد أرضعته أمه ، فإن الإحسان جالب للمحبة . ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير ، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى بالعلم بأن الله بكل شيء عليم ، وذلك إشارة إلى المجازاة ، وتهديد ووعيد لمن خالف أمره تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية