الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1445 [ ص: 141 ] 1412 - وروى مالك في هذا الباب من الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري ، عن أبيه ; أنه قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري ، فسأله عن الناس ، فأخبره ، ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر ؟ فقال : نعم ، رجل كفر بعد إسلامه ، قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه ، فضربنا عنقه ، فقال عمر : أفلا حبستموه ثلاثا ، وأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ، ولم أرض إذ بلغني .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32152 - وحدثني خلف بن قاسم ، قال : حدثني ابن أبي العقيب ، قال : حدثني أبو زرعة ، قال : حدثني أحمد بن خالد ، قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه ، قال : قدم وفد أهل البصرة على عمر ، فأخبروه بفتح تستر ، فحمد الله ، ثم قال : هل حدث فيكم حدث ؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه ، فقتلناه ، قال : [ ص: 142 ] ويلكم ، أعجزتم أن تطينوا عليه بيتا ثلاثا ، ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا ، فإن تاب قبلتم منه ، وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه ، اللهم إني لم أشهد ، ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني .

                                                                                                                        32153 - ورواه ابن عيينة ، فقال فيه : عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه .

                                                                                                                        32154 - وقول مالك ، وابن إسحاق الصواب إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                        32155 - وروى داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك أن نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ، فلحقوا بالمشركين ، فلما فتحت قتلوا في القتال ، قال : فأتيت عمر بفتحها ، فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فعرضت عن حديثه لأشغله عن ذكرهم ، فقال : لا . ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ فقلت : قتلوا ، قال : لأن أكون كنت أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء ، قلت : وهل كان سبيلهم إلا القتل ؟ ارتدوا عن الإسلام ، ولحقوا بالمشركين ، قال : كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، فإن قبلوا قبلت منهم ، وإلا استودعتهم السجن .

                                                                                                                        32156 - قال أبو عمر : يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا ، فإن لم يتوبوا قتلوا ، هذا لا يجوز غيره ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه ، فاضربوا عنقه .

                                                                                                                        32157 - وروى عبادة ، عن العلاء أبي محمد أن عليا - رضي الله عنه - أخذ [ ص: 143 ] رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام ، فعرض عليه الإسلام شهرا ، فأبى ، فأمر بقتله .

                                                                                                                        32158 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : قال علي : يستتاب المرتد ثلاثا ، فإن عاد قتل .

                                                                                                                        32159 - وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي ، وقد ارتد عن الإسلام ، فاستتابه ، فأبى أن يتوب ، فقتله .

                                                                                                                        32160 - وقد ذكرنا في التمهيد من هذه الآثار كثيرا .

                                                                                                                        32161 - ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد ، فكأنهم فهموا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه فاقتلوه أي بعد أن يستتاب ، والله أعلم .

                                                                                                                        32162 - إلا حديث معاذ مع أبي موسى ، فإن ظاهره القتل دون استتابة ، وقد قيل إن ذلك المرتد قد كان استتيب .

                                                                                                                        . 32163 - رواه يحيى القطان وغيره ، عن قرة بن خالد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد ، فقال : ما شأن هذا ؟ فقال : كان يهوديا فأسلم ، وارتد - وراجع دينه دين السوء ، فقال معاذ : لا أنزل حتى يقتل ، [ ص: 144 ] قضاء الله ورسوله .

                                                                                                                        32164 - وروي هذا الحديث من وجوه عن أبي موسى إلا أن بعضهم قال فيه : قد كان استتيب قبل ذلك أياما .

                                                                                                                        32165 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثني عباد بن العوام ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن حميد بن هلال أن معاذا لما أتى أبا موسى ، وعنده رجل يهودي ، فقال : ما هذا ؟ قال : يهودي أسلم ، ثم ارتد ، وقد استتابه أبو موسى شهرين ، فقال معاذ : لا أجلس حتى أضرب عنقه .

                                                                                                                        32166 - واحتج من لم ير الاستتابة بحديث معاذ هذا .

                                                                                                                        32167 - واحتجوا أيضا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم فتح مكة بقتل قوم ارتدوا [ ص: 145 ] عن الإسلام منهم عبد الله بن خطل ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مع ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه ، فاقتلوه .

                                                                                                                        32168 - وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة كان يقول : يقتل المرتد ، ولا يستتاب .

                                                                                                                        32169 - ويحتج بحديث معاذ مع أبي موسى .

                                                                                                                        32170 - وقال الليث بن سعد ، وطائفة معه : لا يستتاب من ولد في الإسلام ، ثم ارتد إذا شهد عليه ، ولكنه يقتل ، تاب من ذلك ، أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة .

                                                                                                                        32171 - واختلفوا عن الحسن البصري : فروي عنه أنه قال : يقتل دون استتابة .

                                                                                                                        32172 - وروي عنه أنه قال : يستتاب مئة مرة .

                                                                                                                        32173 - قال أبو عمر : من رأى قتله بالاستتابة جعله حدا من الحدود ، ولم يقبل فيه توبته .

                                                                                                                        [ ص: 146 ] 32174 - وقال : توبته بينه وبين الله في آخرته ، ورأى أن حده إذا بدل دينه القتل .

                                                                                                                        32175 - وروى ابن القاسم وغيره عن مالك ، قال : يعرض على المرتد الإسلام ثلاثا ، فإن أسلم وإلا قتل .

                                                                                                                        32176 - قال : وإن ارتد قتل ولم يستتب كما تقتل الزنادقة .

                                                                                                                        32177 - قال : وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه .

                                                                                                                        32178 - قال مالك : يقتل الزنادقة ، ولا يستتابون .

                                                                                                                        32179 - قال : والقدرية يستتابون ، يقال لهم : اتركوا ما أنتم عليه ، فإن تابوا ، وإلا قتلوا .

                                                                                                                        32180 - وقال ابن وهب عن مالك : ليس في استتابة المرتد أمر من جماعة الناس .

                                                                                                                        32181 - وقال الشافعي : يستتاب المرتد ظاهرا ، والزنديق جميعا ، فمن لم يتب منهما قتل .

                                                                                                                        32182 - وفي الاستتابة ثلاثا قولان : أحدهما : حديث عمر .

                                                                                                                        والآخر : أنه لا يؤخر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأناة ، وهذا ظاهر الخبر .

                                                                                                                        32183 - قال الشافعي : ولو شهد عليه شاهدان بالردة قتل ، فإن أقر بأن لا إله [ ص: 147 ] إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره .

                                                                                                                        32184 - والمشهور من مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب .

                                                                                                                        32185 - وهو قول ابن علية .

                                                                                                                        32186 - قالوا : ومن قتله قبل أن يستتاب ، فقد أساء ، ولا ضمان عليه .

                                                                                                                        32187 - وروى محمد بن الحسن في السير عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام .

                                                                                                                        32188 - والزنديق عندهم مثل المرتد سواء ، إلا أن أبا يوسف لما رأى ما يصنع الزنادقة ، وأنهم يرجعون بعد الاستتابة ، قال : أرى إن أتيت بزنديق أن أضرب عنقه ، ولا أستتيبه ، فإن تاب قبل أن أقتله لم أقتله وخليته .

                                                                                                                        32189 - قال أبو عمر : روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : المرتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، ثم إن ارتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، ثم إن ارتد يستتاب ، فإن تاب قبل منه ، فإن ارتد بعد الثلاث قتل ، ولم يستتب .

                                                                                                                        [ ص: 148 ] 32190 - وقالت به طائفة من العلماء ، ونزع بعضهم بقول الله عز وجل : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا . . . الآية [ النساء : 137 ] .

                                                                                                                        32191 - قال أبو عمر : رأى مالك وحده من بين سائر الفقهاء استتابة أهل القدر ، وسائر أهل الأهواء .

                                                                                                                        32192 - وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله عز وجل ، وقد مضى في كتاب الفرائض ميراث المرتد ، واختلاف العلماء فيه .

                                                                                                                        32193 - وأما حكم فراقه لنسائه وسراريه وإمائه ، وسائر ماله ، وحكم أولاده الصغار ، وهل يجب عليه قضاء صلاة وحج وزكاة إذا تاب فليس هذا الباب بموضع ذكر ذلك .




                                                                                                                        الخدمات العلمية