الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1448 [ ص: 155 ] 20 - باب القضاء في المنبوذ

                                                                                                                        1415 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن سنين أبي جميلة - رجل من بني سليم - أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب . قال : فجئت به إلى عمر بن الخطاب . فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال : وجدتها ضائعة فأخذتها ، فقال له عريفه : يا أمير المؤمنين ، إنه رجل صالح ، فقال له عمر : أكذلك ؟ قال : نعم . فقال عمر بن الخطاب : اذهب فهو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته .

                                                                                                                        32207 م - قال يحيى : سمعت مالكا يقول : الأمر عندنا في المنبوذ ، [ ص: 156 ] أنه حر ، وأن ولاءه للمسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32208 - قال أبو عمر : إنما أنكر عمر على سنين أبي جميلة أخذ المنبوذ ; لأنه ظن ، والله أعلم ، أنه يريد أن يفرض له .

                                                                                                                        32209 - وكان عمر يفرض للمنبوذ ، فظن أنه أخذه ليلي أمره ويأخذ ما يفرض له ، فيصلح فيه ما شاء ، فلما قال له عريفه : إنه رجل صالح ترك ظنه ، وأخبره بالحكم عنده فيه بأنه حر ولا ولاء لأحد عليه ; لأن الأحرار لا ولاء عليهم .

                                                                                                                        32210 - وقوله : وعلينا نفقته ، يعني أن رضاعه ونفقته في بيت المال ، وإنما جعله حرا ، والله أعلم ، لأن لا يقول أحد في عبد له يولد عنده ، فيطرحه ثم يأخذه ويقول : وجدته منبوذا ليفرض له ، ما اختلف الفقهاء .

                                                                                                                        32211 - واختلف الفقهاء في المنبوذ تشهد البينة أنه عبد :

                                                                                                                        32212 - فقالت طائفة من أهل المدينة : لا يقبل قولها في ذلك ، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ، ومن قضى بحديثه لم يقبل البينة في أنه عبد .

                                                                                                                        32213 - وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك ، وهو قول الشافعي ، [ ص: 157 ] والكوفيين ، واختلفوا في إقراره إذا بلغ ، فأقر بأنه عبد .

                                                                                                                        32214 - وقال مالك : لا يقبل إقراره ; أنه عبد ; لأنه ليس له أن يرق نفسه .

                                                                                                                        32215 - ولم يختلف في ذلك أصحاب مالك .

                                                                                                                        32216 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : يقبل إقراره بأنه عبد إذا كان بالغا .

                                                                                                                        32217 - قالوا : وإقراره بالرق أقوى من شهادة الشهود .

                                                                                                                        32218 - قالوا : وما يقبل فيه البينة يقبل فيه إقراره .

                                                                                                                        32219 - واختلفوا في اللقيط في قرية فيها يهود ، ونصارى ، ومسلمون :

                                                                                                                        32220 - وقال ابن القاسم : يجعل على دين أكثرهم عددا ، وإن وجد عليه زي اليهود ، فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي النصارى ، فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام .

                                                                                                                        32221 - وقال أشهب : هو مسلم أبدا ; لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال .

                                                                                                                        32222 - واختلفوا في قبول دعوى من ادعاه ابنا له :

                                                                                                                        32223 - فقال أشهب : تقبل دعواه إلا أن يبين كذبه .

                                                                                                                        32224 - وقال ابن القاسم : لا تقبل دعواه إلا أن يبين صدقه .

                                                                                                                        32225 - وأما اختلاف أهل العلم في ولاء اللقيط :

                                                                                                                        32226 - فذهب مالك ، والشافعي ، وجماعة من أهل الحجاز أن اللقيط حر ، [ ص: 158 ] لا ولاء لأحد عليه .

                                                                                                                        32227 - وتأولوا في قول عمر : لك ولاؤه أي لك أن تليه ، وتقبض عطاءه ، وتكون أولى الناس بأمره حتى يبلغ رشده ، ويحسن النظر لنفسه ، فإن مات كان ميراثه لجماعة المسلمين ، وعقله عليهم .

                                                                                                                        32228 - واحتج الشافعي بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الولاء لمن أعتق ، قال : جمع بينهما الولاء عن غير المعتق .

                                                                                                                        32229 - واتفق مالك ، والشافعي ، وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ولا يرثه أحد بالولاء .

                                                                                                                        32230 - وهو قول الحسن البصري .

                                                                                                                        32231 - ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني عبد الأعلى ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : جريرته في بيت المال ، وعقله لهم ، وميراثه عليهم .

                                                                                                                        32232 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن والاه ، فهو يرثه ، ويعقل عنه .

                                                                                                                        32233 - وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا .

                                                                                                                        32234 - قال أبو عمر : ذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثني حاتم بن [ ص: 159 ] إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : قال علي - رضي الله عنه - : المنبوذ حر ، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه .

                                                                                                                        32235 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الساقط يوالي من شاء .

                                                                                                                        32236 - وهو قول ابن شهاب ، وطائفة من أهل المدينة .

                                                                                                                        32237 - وقال : حدثني حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أعطى ميراث المنبوذ للذي كفله .

                                                                                                                        32238 - قال أبو بكر : وحدثني عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ميراث اللقيط بمنزلة اللقطة .

                                                                                                                        32239 - قال : وأخبرني عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، قال إذا والى رجل رجلا ، فله ميراثه ، وعليه عقله .

                                                                                                                        32240 - قال أبو عمر : قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث واثلة بن الأسقع أنه قال : ترث المرأة عتيقها ، ولقيطها وابنها الذي لاعنت عليه .

                                                                                                                        [ ص: 160 ] 32241 - وهو حديث ليس بالقوي ; انفرد به عمر بن روبة ، وهو شامي ضعيف .

                                                                                                                        32242 - وقد روى سفيان بن عيينة حديث مالك هذا المذكور في هذا الباب ، عن الزهري ، عن سنين أبي جميلة بألفاظ أتم من ألفاظ حديث مالك .

                                                                                                                        32242 م - حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن وضاح ، قال : حدثني محمد بن عبد السلام ، قال : حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثني سفيان ، عن الزهري ، قال : سمعت سنينا أبا جميلة يحدث سعيد بن المسيب ، قال : وجدت منبوذا على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فذكره عريفي لعمر ، فأرسل إلي ، فجئت ، والعريف عنده ، فلما رآني مقبلا ، قال : عسى الغوير أبؤسا . كأنه اتهمه ، فقال له عريفي : يا أمير المؤمنين ! إنه غير متهم به ، فقال عمر : علام أخذت هذه التسمية ؟ قلت : وجدت نفسا بمضيعة ، فأحببت أن يأخذني الله عليها ، فقال عمر : هو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا رضاعه .

                                                                                                                        [ ص: 161 ] 32243 - قال أبو عمر : ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام هذا الخبر في كتاب غريب الحديث ; لقول عمر - رضي الله عنه - فيه : عسى الغوير أبؤسا ، وذكر أنه مثل تتمثل به العرب ، إذا خافت شرا ، أو توقعته ، وظنته ; هذا معنى كلامه .

                                                                                                                        32244 - وذكر في أصل المثل عن الأصمعي ، وعن ابن الكلبي خبرين مختلفين : أحدهما : عن ابن الكلبي : أن أول من تكلم بهذا المثل الزباء إذ بعثت [ ص: 162 ] قصيرا اللخمي ، وكان يطلبها بدم جذيمة الأبرش ، فكادها ، وخبأ لها الرجال في صناديق ، أو غرائر ، فلما أحست بذلك ، قالت : عسى الغوير أبؤسا .

                                                                                                                        32245 - قال : والغوير : ماء لكلب ؛ موضع معروف في جهة السماوة .

                                                                                                                        32246 - وذكر عن الأصمعي أنه غار أصيب فيه قوم قد انهار عليهم وقتلوا فيه .

                                                                                                                        32247 - والغوير تصغير غار ، والأبؤس جمع البأس ، فصار هذا الكلام مثلا لكل شيء يخاف بأن يأتي منه شر .

                                                                                                                        32248 - قال أبو عبيد : وقول ابن الكلبي عندي أشبه بالصواب .

                                                                                                                        32249 - قال أبو عمر : تلخيص ما نزع به عمر - رضي الله عنه - في قوله : عسى الغوير ، أنه لما رأى أبا جميلة مقبلا بالمولود المنبوذ قال ذلك المثل السائر ، يريد ألا يأتي ملتقط المنبوذ بخير ; خوفا منه معنى ما تقدم ذكري له حتى أخبره عريفه أنه رجل صالح ، لا يأتي إلا بالحق ، فقضى فيه بما قضى .

                                                                                                                        32250 - وقد أوردنا في ذلك ما جاء فيه عن العلماء ، والحمد لله كثيرا .




                                                                                                                        الخدمات العلمية