الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                القسم الثاني من النقدين ما يكون قيما في المتاجر ، والتاجر إما أن يباشر بنفسه أو بغيره ، والمباشر بنفسه إما أن ينتظر حوالة الأسواق - وهو المحتكر - أو لا - وهو المدير - والمباشر لغيره هو المقارض ، فهذه ثلاث حالات : الحالة الأولى : المحتكر ، فتجب الزكاة عليه عند مالك والأئمة لقوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " . ( التوبة : 103 ) وفي أبي داود : ( كان عليه السلام يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع ) وفي هذه الحالة : [ ص: 17 ] ( فروع ستة ) :

                                                                                                                الأول ، قال سند : فإن اشترى بعرض كان للتجارة ، ولم تخل نيته فعليه الزكاة إذا باع ، فإن اشترى بعرض مقتنى تنزل المشترى منزلة أصله ، ولا تؤثر فيه نية التجارة تغليبا للأصل ، قاله : مالك ، خلافا للأئمة ، ولأنه لم يملكه بعين زكاته ولا ما تضمنها ، فهو كالهبة والميراث والغنيمة إذا نوى بها التجارة ، فلا زكاة عند الجميع ، ولأن زكاة القيم تابعة لزكاة العين ، ولا عين ، فلا زكاة ، فإن اشتراه لعين بناه على حولها ، فإن لم يبعه بعد حول العين ، قال مالك : لا يزكي حتى يبيع خلافا ل ( ش ) و ( ح ) وخيراه بين إخراج ربع عشر العرض أو ربع عشر قيمته ، لنا : أن وجود العين في يده معتبر في الابتداء فكذلك في الانتهاء ، فإن زكى قبل البيع لم تجزه عند ابن القاسم لعدم الوجوب خلافا لأشهب ; لأنه يرى الوجوب متحققا ، وإنما ترتب الإخراج على البيع وهو مذهبه في الدين .

                                                                                                                الثاني : في ( الكتاب ) : إذا استهلك عرض التجارة فأخذ قيمة بناها على حوله كالثمن ; لأنه ثمن بالعقد ، والقيمة ثمن بالشرع ، ولأن القيمة قائمة مقام المقوم ، ولذلك سميت قيمة ، فإن أخذ بالقيمة سلعة للتجارة ( فهي للتجارة ، أو للقنية ) فهي للقنية لا تزكى بعد البيع ، قال سند : إذا أخذ من المتعدي عروضا فلا زكاة ولو حال عليها الحول قبل التعدي ، وكذلك لو باع بثمن فلم يقبضه حتى أخذ عنه عرضا لعدم وجود العين .

                                                                                                                الثالث : في ( الكتاب ) : إذا باع سلعة للتجارة بعد الحول فإنه يزكي حينئذ بعد القبض ، فإن أخذ في المائة ثوبا فباعه بعشرة فلا يزكي إلا أن يكون عنده ما يكمل به النصاب ، أو يبيع بنصاب ; لأن القيم أمور متوهمة ، وإنما يحققها البيع .

                                                                                                                الرابع : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : إذا ابتاع عبدا للتجارة فكاتبه فعجز ، أو ارتجع من مفلس سلعته ، أو أخذ من غريمه عبدا في دينه أو دارا فأجرها سنين ، رجع جميع ذلك لحكم أصله من التجارة ، فإن ما كان للتجارة لا يبطل إلا بنية [ ص: 18 ] القنية ، والعبد المأخوذ يتنزل منزلة أصله . قال سند : فلو ابتاع الدار أو غيرها بقصد الغلة ، ففي استئناف الحول بعد البيع لمالك روايتان ، وأجاز ابن القاسم الاستئناف ، ولو ابتاعها للتجارة والسكنى : فلمالك قولان مراعاة لقصد الثمنية بالغلة والتجارة ، وتغليبا لنية القنية على نية الثمنية ; لأنها الأصل في العروض ، فإن اشترى ولا نية له فهي للقنية ; لأنه الأصل فيها .

                                                                                                                قاعدة : كل ما له ظاهر فهو منصرف لظاهره إلا عند قيام المعارض الراجح ، وكل ما ليس له ظاهر لا يترجح إلا بمرجح ، ولذلك انصرفت العقود إلى النقود الغالبة ; لأنها ظاهرة فيها ، وإلى تصرف الإنسان لنفسه دون مواليه ; لأنه الغالب عليه ، وإلى الحل دون الحرمة ; لأنه ظاهر حال المسلم ، وإلى المنفعة المقصودة من العين عرفا ; لأنه ظاهر فيها ، ولا يحتاج إلى التصريح بها ، واحتاجت العبادات إلى النيات لتردد ما بينها وبين العادات وترددها بين مراتبها من الفرض والنفل وغيره ، والكائنات إلى المميزات لترددها بين المقاصد ، وهي قاعدة يتخرج عليها كثير من أبواب الفقه .

                                                                                                                الخامس : في ( الكتاب ) : إذا اكترى أرضا فابتاع طعاما فزرعه فيها للتجارة ، أخرج زكاته يوم حصاده إن كان خمسة أوسق ، ثم ابتدأ حولا وقومه بعده إن كان مديرا وله عين سواه ، وإلا زكاه بعد البيع بعد حول ، فإن باع قبله انتظر الحول إن كان نصابا ; لأنه لا يزكى مال في حول مرتين ، فإن زرعها بطعامه أو كانت له فزرعها للتجارة زكاه يوم حصاده إن كان خمسة أوسق ، فإن باعه فالثمن .

                                                                                                                فائدة : والفرق أنه متولد عن الأرض والبذر كتولد السخال عن الماشية ، [ ص: 19 ] فلما كان أحدهما ليس للتجارة سقط حكمها تغليبا للأصل في القنية . وفي ( الجواهر ) : وقيل في حكم الزرع أنه للأرض كما غلبت الأم في لحوق الولد في الزنا على الأب ، وقيل : للبذر والعمل نظرا للكثرة ، وقال عبد الحميد : يفض على الثلاثة فما ناب ما للتجارة زكي ، ولو كان مال التجارة ماشية وجبت زكاة العين دون التجارة .

                                                                                                                قال سند : وأسقط أشهب الزكاة في وجهي الزراعة ; لأن التجارة إنما تكون بالبيع والشراء غالبا بل هذا كمبتاع الغنم للبنها والعبد لغلته ، وعند ابن القاسم لو كان مديرا وحل شهره والزرع بقل قومه بقلا ، وإن حل بعد تعلق زكاة الزرع به لا يقومه ولا تبنه ; لأنه تابع للحب قبل الانفصال ، والمال لا يزكى في عام مرتين ، وكذلك لو اشترى غنما فزكاها زكاة الماشية فلا يزكى ثمنها إلا بعد حول من حينئذ ، فإن حل حوله بعد زكاة الحب زكى ناضه وعروضه وتبن الحب ، ولا يزكى الحب إلا بعد حول من يوم زكاته ، وكذلك ثمنه إن باعه .

                                                                                                                السادس : في ( الكتاب ) : من اشترى عرضا للتجارة ثم نوى القنية سقطت الزكاة ، وقاله ( ش ) و ( ح ) .

                                                                                                                وفي الجلاب لو اشترى عرضا للقنية فنوى به التجارة لا يكون للتجارة بل يستقبل حولا بعد البيع ، وقالهمالك والأئمة . والفرق [ ص: 20 ] من وجهين : الأول : أن الأصل في العروض القنية ، فيرجع إلى أصلها بالنية ، ولا يخرج عنه ، كما لا يرجع المقيم مسافرا ; لأن الأصل الإقامة حتى ينضاف إليها فعل الخروج ويصير مقيما بها لسلامتها عن معارضة الأصل . الثاني : أن حقيقة القنية الإمساك . وقد وجد حقيقة البيع للربح ولم يوجد ، وقال أشعب : لا تبطل التجارة بالنية ، فإن الفعل السابق - وهو الشراء للتجارة - أقوى من النية ، فإنه مقصد وهي وسيلة ، والمقاصد مقدمة على الوسائل . ( الحالة الثانية ) : الإدارة كالخياط والزيات ومن ينقل القماش إلى البلاد فيجعل لنفسه شهرا يقوم فيه عروض التجارة ; فيزكي قيمتها مع عينه ودينه إلا ما لا يرتجيه منه ، فكذلك لو تأخر بيعها وقبض دينه عاما آخر ، والفرق بينه وبين المحتكر : أن ضبط حول كل سلعة مع تكرر ذلك مع الأيام عسر ، فإن ألزمناه بذلك أضررنا به ، أو أسقطنا الزكاة أضررنا بالفقراء فكانت المصلحة الجامعة كما ذكرناه وسوى ش وح بينهما . وقال سند : ومبدأ الحول اليوم الذي يزكى فيه المال قبل إدارته أو يوم إفادته إن كانت الإدارة قبل تزكيته فيبنى على حول أصله ، فإن اختلطت أحواله جرى على اختلاف أصحابنا في ضم الفوائد إذا اختلطت أحوالها ، فإن لم يكن له ناض ، أو له لكنه أقل من الجزء الواجب عليه : قال مالك : يبيع العرض ; لأن الزكاة إنما تجب في القيم ، فلو أخرج العرض لكان كإخراج القيمة وهو المشهور ، وقال أيضا ش وح : يخير بين البيع وإخراج الثمن ، وبين إخراج العرض ; لأن الزكاة مرتبطة بالعروض من جهة أنها مملوكة وهي الكائنة في الحول ، والقيم متوهمة لم توجد ومرتبطة بالقيم لأنها النصاب ، وهي السبب الشرعي ، فخير لذلك ، وقال ابن نافع : لا يزكي حتى ينض عشرون دينارا بعد حول فيزكيها ثم يزكي بعد ذلك ما قل ، ولا يقوم ; لأن الزكاة إنما تتعلق بالثمن بشرط النضوض ، وروى ابن القاسم في مدير لا يقوم ، بل [ ص: 21 ] متى نض له شيء زكاه ما صنع إلا خيرا وما أعرفه من عمل الناس ، قال ابن القاسم : والتقويم أحب إلي وإذا قلنا بالتقويم فيقوم ما يباع بالذهب بالذهب ، وما يباع غالبا بالفضة بالفضة ; لأنه قيمة الاستهلاك ، فإن كانت تباع بهما واستويا بالنسبة إلى الزكاة يخير والأضمن ، قال : الأصل في الزكاة الفضة قوم بها . وإن قلنا : إنهما أصلان فقال ( ح ) وابن حنبل : يعتبر الأفضل للمساكين ; لأن التقويم لحقهم ، وقوله في ( الكتاب ) : يقوم دينه ، محمول على دين المعاملة ، أما دين القرض فقال ابن حبيب : حتى يقبضه فيزكيه لعام واحد ; لأن القرض مصروف عن الإدارة كعرض ادخره للكسوة أو القنية ، والدين على المعسر لا يحسب ولا يقوم عند مالك والأئمة ، وقال ابن حبيب : يقومه لأنه ممكن البيع ، فإن كان على مليء وعليه بينة مرضية زكاه ، وإن كان مؤجلا على موسر فلا يزكيه عند ابن القاسم والأئمة لتعذر المطالبة به فأشبه المعسر ، وعند ابن الماجشون : يقومه لإمكان بيعه ، وإذا كان له مال غائب يعلم خبره ، قال مالك : لا يزكيه حتى يعلم خبره فيزكيه للسنين الماضية ; لأنه أولى بالسقوط من الدين على المعسر لتعذر بيعه ، بخلاف دين المعسر ، وفي ( الجواهر ) : المعتبر في الدين الحال : عدده إن كان عينا ، أو القيمة إن كان عرضا أو مؤجلا ، واختلف المتأخرون في تقويم دينه من الطعام نظرا لكونه بيع الطعام قبل قبضه أم لا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية