الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون هذه الجملة بيان لجملة ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون لما فيها من تفصيل الإجمال المستفاد من قوله ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين ، فعدم اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقه .

وضمير " يروا " عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر . والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفا ، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولها . فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله قبلهم يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها .

وقيل يجوز أن يكون ضمير ألم يروا عائدا إلى ما عاد إليه من ضمير واضرب لهم مثلا ويكون المثل قد انتهى بجملة يا حسرة على العباد . الآية . وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة واضرب لهم مثلا كما عطفت جملة ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) الآية ، وجملة وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ، وجملة وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [ ص: 10 ] ولا ملجئ إلى هذا الاعتبار في المعاد ، وقد علمت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم .

والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا ; نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزلة عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور ، ويجوز كون الاستفهام تقريريا بني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرون استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلا الإقرار بأنهم عاملون فيكون إقرارهم أشد لزوما لهم ؛ لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك .

والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها .

وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود كم لأن كم لها صدر الكلام سواء كانت استفهاما أم خبرا ، فإن كم الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده .

و ( وكم ) في موضع نصب بـ ( أهلكنا ) : ومفادها كثرة مبهمة فسرت بقوله من القرون ووقعت كم في موضع المفعول لقوله أهلكنا .

و " قبلهم " ظرف لـ ( أهلكنا ) ، ومعنى قبلهم : قبل وجودهم .

وقوله " أنهم إليهم لا يرجعون " بدل اشتمال من جملة " أهلكنا " لأن الإهلاك يشتمل على عدم الرجوع ; أبدل المصدر المنسبك من ( أن ) وما بعدها من معنى جملة ( كم أهلكنا قبلهم من القرون ) لأن معنى تلك الجملة كثرة الإهلاك وكثرة المهلكين . وفعل الرؤية عامل في أنهم إليهم لا يرجعون بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة كم أهلكنا ؛ لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل .

وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإهلاك لزيادة التخويف ، ولاستحضار تلك الصورة في الإهلاك أي إهلاكا لا طماعية معه للرجوع إلى الدنيا ، فإن ما يشتمل عليه الإهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحا .

[ ص: 11 ] و " إليهم " متعلق بـ ( يرجعون ) وتقديمه إلى متعلقه للرعاية على الفاصلة .

وضمير إليهم عائد إلى العبادة ، وضمير أنهم عائد إلى القرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية