الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1496 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة ، فلما كنا قريبا من عزوزاء ، نزل ثم رفع يديه ، فدعا الله ساعة ، ثم خر ساجدا ، فمكث طويلا ، ثم قام فرفع يديه ساعة ، ثم خر ساجدا ، فمكث طويلا ، ثم قام فرفع يديه ساعة ، ثم خر ساجدا ، قال : إني سألت ربي ، وشفعت لأمتي ، فأعطاني ثلث أمتي ، فخررت ساجدا لربي شكرا ، ثم رفعت رأسي ، فسألت ربي لأمتي ، فأعطاني ثلث أمتي ، فخررت ساجدا لربي شكرا ، ثم رفعت رأسي ، فسألت ربي لأمتي ، فأعطاني الثلث الآخر ، فخررت ساجدا لربي ) شكرا . رواه أحمد ، وأبو داود .

التالي السابق


1496 - ( وعن سعد بن أبي وقاص ) : أحد العشرة . ( قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد ) : بصيغة المتكلم مع الغير ، وفي نسخة بصيغة الغيبة أي : هو - صلى الله عليه وسلم - يريد . ( المدينة ) ك أي أصالة ، ونحن مريدون تابعون له في المراد . ( فلما كنا قريبا ) أي : في موضع قريب أو قريبين ، أو ذوي قرب . ( من عزوزاء ) : بفتح العين المهملة وسكون الزاي الأولى ، وفتح الواو والمد ، وقيل : بالقصر ، ثنية بالجحفة عليها الطريق من المدينة إلى مكة ، سمي بذلك لصلابة أرضه ، مأخوذ من العزاز بفتح العين ، الأرض الصلبة ، أو لقلة مائه من العزوزة ، وهي الناقة الضيقة الإحليل التي لا ينزل ) لبنها إلا بجهد ، وفي نسخة : عزوراء بالراء المهملة ، وكذا في حاشية نسخة السيد مرفوعا عليه : ظاهر ؛ إشارة إلى أن هذا هو الظاهر ، وإيماء إلى عدم وجدان نسخة في المشكاة مطابقة له .

ونقل ميرك عن خط السيد أصيل الدين أن قوله : عزوزاء بفتح العين المهملة والزاءين المعجمتين بينهما واو مفتوحة ، وبعد الزاي الثانية ألف ممدودة ، والأشهر حذف الألف ، هكذا صحح هذه اللفظة شراح المصابيح وقالوا : هي موضع بين مكة والمدينة ، والعزازة بالفتح الأرض الصلبة . وقال صاحب المغرب ، والشيخ الجزري ، في صحيح المصابيح : عزوراء بفتح العين المهملة وزاي : ساكنة ثم واو وراء مهملة مفتوحتين وألف ، وضبط بعضهم بحذف الألف وهي : ثنية عند الجحفة خارج مكة . قال الشيخ : ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ضبطه شراح المصابيح مما يخالف ذلك ، فقد اضطربوا في تقييدها ، ولم أر أحدا منهم ضبطها على الصواب ، والله أعلم اهـ .

ويوافقه ما في القاموس ، ويفهم من النهاية أنه بالزاي : المعجمة . ( نزل : نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع لم يكن لخاصية البقعة ، بل لوحي أوحي إليه في النهي أو الأمر ، قاله الطيبي : والظاهر أن البقعة لا تخلو عن خصوصية حيث اختصت بالدعاء لأمته من الخاص والعام ، والله أعلم . ( ثم رفع يديه ، فدعا الله ساعة ، ثم خر أي : وقع أو سجد . ( ساجدا فمكث ) : بفتح الكاف وضمها . ( طويلا ) : أي مكث طويلا أو زمانا كثيرا . ( ثم قام ) فرفع يديه ساعة ، ثم خر ساجدا ، فمكث طويلا ثم قام أي : ثالثا . ( فرفع يديه ساعة ، ثم خر ساجدا ) : وفيه إشارة إلى أن الإخفاء أفضل في الدعاء . قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال - عز وجل - : إذ نادى ربه نداء خفيا ودليل على استحباب رفع اليدين في الدعاء إلا فيما ورد الأثر بخلافه . ( قال : إني سألت ربي ) أي : دعوته أو طلبت رحمته . ( وشفعت لأمتي ) أي : لغفران ذنوبهم ، وستر عيوبهم ، وإعلاء درجتهم ، ورفعة عظمتهم ومرتبتهم ، وهو بيان للمسئول أو بعضه . ( فأعطاني ) أي : فوهبني . ( ثلث أمتي ) : بضم اللام ويسكن ، أو أعطاني مغفرة ثلثهم وهم السابقون . ( فخررت ) : بفتح الراء أي : وقعت . ( ساجدا لربي شكرا ) أي : لهذه النعمة ، وطلبا للزيادة . قال تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم . ( ثم رفعت رأسي ، فسألت ربي ) أي : سعة رحمته ، ومزيد مغفرته . ( لأمتي ) أي : كافة . ( فأعطاني ثلث أمتي ) : وهم المقتصدون . ( فخررت ساجدا لربي ) شكرا ، ثم رفعت رأسي ، فسألت ربي أي : سعة رحمته ومزيد مغفرته .

( لأمتي ) أي : كافة . ( فأعطاني الثلث الآخر ) : بكسر الخاء ، وقيل : بفتحها ، وهم الظالمون لأنفسهم العاصون . قال التوربشتي : أي : فأعطانيهم فلا يجب عليهم الخلود ، وتنالهم شفاعتي ، ولا يكونون كالأمم السالفة ، فإن من عذب منهم وجب عليهم الخلود ، وكثير منهم لعنوا لعصيانهم الأنبياء ، فلم تنلهم الشفاعة ، والعصاة من هذه الأمة من عوقب منهم نقي وهذب ، ومن مات منهم على الشهادتين يخرج من النار ، وإن عذب بها تناله الشفاعة ، وإن اجترح الكبائر ، ويتجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعملوا أو يتكلموا إلى غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالى هذه الأمة كرامة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

[ ص: 1105 ] وفي بعض كلامه بحث ، وهو أنه لا يجب عليهم الخلود بخلاف الأمم ; لأنه يخلو من أن المراد بالأمة أمة الإجابة ، أو أمة الدعوة ، ولا يصح الثاني فإنه تعالى قال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والقضيتان في الأمم كلها متساويتان ، فالصواب أن يحمل على الشفاعة العامة المختصة به - عليه الصلاة والسلام - لأمته المرحومة . ( فخررت ساجدا لربي : ولم يقل هنا : شكرا لما سبق مكررا . قال المظهر : ليس معنى الحديث أن يكون جميع أمته مغفورين بحيث لا تصيبهم النار ; لأنه يناقض كثيرا من الآيات ، والأحاديث الواردة في تهديد آكل مال اليتيم ، والربا ، والزاني ، وشارب الخمر ، وقاتل النفس بغير حق وغير ذلك ، بل معناه : أنه سأل أن يخص أمته من سائر الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب ، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر ، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب ، وغير ذلك من الخواص التي خص الله تعالى أمته - عليه الصلاة والسلام - من بين سائر الأمم ، وفيه نظر ; لأن السنة كما دلت على ذلك دلت على هذا ، كذا الكتاب كقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، والعفو من الكريم ينبغي أن يكون أرجى من العذاب ، والله أكرم الأكرمين . وأما دخول النار فليس إلا تحلة القسم خلافا للمعتزلة اهـ . ولم يظهر وجه نظره .

وأما قوله : لأن السنة كما دلت على ذلك أي : على تعذب أهل الكبائر دلت على ذلك أي : على غفرانهم ، فأقول : لا تنافي بينهما على ما هو مقرر في العقائد من أنهم يعذبون في الجملة أولا ، ثم يغفر لجميعهم ثانيا ، وكذلك الحكم بين الآيتين ، فإن الثانية محكمة ، والأولى إما منسوخة أو مئولة ، بأن اللام في الذنوب للعهد ، والمراد ما عدا الكفر ، أو الاستغراق ، فيكون مقيدا بالتوبة . قال القاضي : وكانت شفاعته في الأمة في أن لا يخلدهم في النار ، ويخفف ويتجاوز عن صغائر ذنوبهم توفيقا بينه وبين ما ذكر في الكتاب والسنة على أن الفاسق من أهل القبلة يدخل النار .

قال الطيبي : يفهم من كلام القاضي والمظهر : أن الشفاعة مؤثرة في الصغائر ، وفي عدم الخلود في حق أهل الكبائر بعد تمحيصهم بالنار ، ولا تأثير للشفاعة في حق أهل الكبائر قبل الدخول في النار ، وقد روي عن الترمذي ، وأبي داود عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . وعن الترمذي ، عن جابر : من يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ، والأحاديث فيها كثيرة .

قلت : ليس فيها ما يدل على أن الشفاعة لأهل الكبائر قبل دخول النار ، فلا منافاة لما قالاه ، ثم قال : نعم يتعلق ذلك بالمشيئة والإذن ، فإذا تعلقت المشيئة بأن تنال بعض أصحاب الكبائر قبل دخول النار وأذن فيها فذاك ، وإلا كانت بعد الدخول ، والله أعلم بحقيقة الحال اهـ . وفيه أن المشيئة إذا ثبت تعلقها بشيء من قبل أو بعد ، فليس محل النزاع لله الأمر من قبل ومن بعد ، وأن الأمر كله لله ، والله أعلم . ( رواه أحمد ، وأبو داود ) أي : من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه بإسناد جيد ، وسكت عليه أبو داود ، وأقره المنذري ، ذكره ميرك .




الخدمات العلمية