الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( كتاب الوقف والصدقة )

                                                                                                                                أما الوقف فالكلام فيه في مواضع : في بيان جواز الوقف وكيفيته ، وفي بيان شرائط الجواز ، وفي بيان حكم الوقف الجائز وما يتصل به ( أما ) الأول فنقول وبالله التوفيق : لا خلاف بين العلماء في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الوقف حيا ، حتى أن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض ، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة ، ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي أو أضافه إلى ما بعد الموت ، بأن قال : إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا أو قال : هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي واختلفوا في جوازه مزيلا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت ، ولا اتصل به حكم حاكم قال أبو حنيفة عليه الرحمة : لا يجوز ، حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته ، وإذا مات يصير ميراثا لورثته .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء رضي الله تعالى عنهم : يجوز ، حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بين ما إذا وقف في حالة الصحة ، وبين ما إذا وقف في حالة المرض ، حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم .

                                                                                                                                وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده ، ويعتبر من الثلث ، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته .

                                                                                                                                وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطا أو خانا للمجتازين ، أو سقاية للمسلمين ، أو جعل أرضه مقبرة ، لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة أضافه إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما [ ص: 219 ] يزول بدون ذلك ، لكن عند أبي يوسف بنفس القول ، وعند محمد بواسطة التسليم وذلك بسكنى المجتازين في الرباط والخان وسقاية الناس من السقاية والدفن في المقبرة ، وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدا يجوز ، وتزول الرقبة عن ملكه لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه ، والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد ، حتى كان له أن يرجع قبل ذلك ، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله : جعلته مسجدا ، وليس له أن يرجع عنه على ما نذكره .

                                                                                                                                ( وجه ) قول العامة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وعامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف ، ووقف سيدنا أبو بكر ، وسيدنا عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيدنا علي ، وغيرهم رضي الله عنهم وأكثر الصحابة وقفوا ; ولأن الوقف ليس إلا إزالة الملك عن الموقوف وجعله لله تعالى خالصا فأشبه الإعتاق وجعل الأرض أو الدار مسجدا ، والدليل عليه أنه يصح مضافا إلى ما بعد الموت ، فيصح منجزا ، وكذا لو اتصل به قضاء القاضي يجوز ، وغير الجائز لا يحتمل الجواز لقضاء القاضي ولأبي حنيفة عليه الرحمة ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت سورة النساء وفرضت فيها الفرائض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا حبس عن فرائض الله تعالى } أي لا مال يحبس بعد موت صاحبه عن القسمة بين ورثته ، والوقف حبس عن فرائض الله تعالى عز شأنه ، فكان منفيا شرعا وعن شريح أنه قال : جاء محمد ببيع الحبيس وهذا منه رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يجوز بيع الموقوف ; لأن الحبيس هو الموقوف فعيل بمعنى المفعول ، إذ الوقف حبس لغة فكان الموقوف محبوسا فيجوز بيعه وبه تبين أن الوقف لا يوجب زوال الرقبة عن ملك الواقف ( وأما ) وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما جاز ; لأن المانع من وقوعه حبسا عن فرائض الله عز وجل ، ودفعه صلى الله عليه وسلم لم يقع حبسا عن فرائض الله تعالى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة } ( وأما ) أوقاف الصحابة رضي الله عنهم فما كان منها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أنها كانت قبل نزول سورة النساء فلم تقع حبسا عن فرائض الله تعالى ، وما كان بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة ، وهذا هو الظاهر ، ولا كلام فيه ، وإنما جاز مضافا إلى ما بعد الموت ; لأنه لما أضافه إلى ما بعد الموت فقد أخرجه مخرج الوصية فيجوز كسائر الوصايا ، لكن جوازه بطريق الوصية لا يدل على جوازه لا بطريق الوصية ، ألا ترى لو أوصى بثلث ماله للفقراء جاز ، ولو تصدق بثلث ماله على الفقراء لا يجوز .

                                                                                                                                وأما إذا حكم به حاكم فإنما جاز ; لأن حكمه صادف محل الاجتهاد وأفضى اجتهاده إليه ، وقضاء القاضي في موضع الاجتهاد ، بما أفضى إليه اجتهاده ، جائز ، كما في سائر المجتهدات .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية