الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        187 [ ص: 179 ] ( 8 ) باب ما جاء في أم القرآن

                                                                                                                        159 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أن أبا سعيد ، مولى عامر بن كريز ، أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب وهو يصلي ، فلما فرغ من صلاته لحقه ، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ، فقال : " إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها " ، قال أبي : فجعلت أبطئ في المشي ; رجاء ذلك ، ثم قلت ; يا رسول الله ، السورة التي وعدتني ، قال : " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ " ، قال : فقرأت : " الحمد لله رب العالمين " حتى أتيت على آخرها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي هذه السورة ، وهي السبع المثاني ، والقرآن العظيم [ ص: 180 ] الذي أعطيت " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        4635 - قال أبو عمر : هذا الحديث مرسل في الموطأ ، هكذا عند جميع رواته ، فيما علمت .

                                                                                                                        4636 - وقد ذكرنا في التمهيد من وصله عن العلاء ، فجعله عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب .

                                                                                                                        4637 - ومنهم من يرويه عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ، ولا في الزبور ، ولا في الإنجيل ، ولا في الفرقان - مثلها ؟ " ، وذكر الحديث .

                                                                                                                        [ ص: 181 ] 4638 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه : " الحمد لله رب العالمين " ، كما قال مالك .

                                                                                                                        4639 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه فاتحة الكتاب .

                                                                                                                        4640 - ومنهم من قال فيه : فقرأت عليه أم القرآن .

                                                                                                                        4641 - ومن أحسنهم له سياقة يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بن كعب - وهو يصلي - فقال : " السلام عليك أي أبي " ، فالتفت إليه ، ولم يجبه ، ثم إن أبيا خفف الصلاة ، ثم انصرف إلى النبي - عليه السلام - ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : " وعليك ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ " ، فقال : يا رسول الله ، كنت أصلي . قال : " أفلست تجد فيما أوحي إلي أن " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " [ سورة الأنفال : 24 ] ؟ قال : بلى يا رسول الله ، ولا أعود أبدا - إن شاء الله - . قال : " أي أبي ، أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها " . قلت : نعم يا رسول الله . قال : " فإني أرجو ألا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها " . قال : ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، فحدثني وأنا أتباطأ به مخافة أن أبلغ الباب قبل أن يقضي الحديث ، فلما دنونا من الباب قلت : يا رسول الله ، السورة التي وعدتني . قال : " كيف تقرأ في الصلاة " . قال : فقرأت عليه أم القرآن ، فقال : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها ، إنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أعطيته " .

                                                                                                                        [ ص: 182 ] 4642 - قال أبو عمر : في حديث مالك من الفقه والمعاني مناداة من يصلي ، وذلك اليوم عندنا محمول على أن يجيب إشارة ، أو إذا فرغ من صلاته ; لتحريم الله الكلام في الصلاة .

                                                                                                                        4643 - قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " [ سورة البقرة : 238 ] ; فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام .

                                                                                                                        4644 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة " .

                                                                                                                        [ ص: 183 ] 4645 - وقد مضى هذا المعنى مجودا ، والحمد لله . فمن دعي اليوم لم يجب حتى يفرغ من صلاته ، إلا في أمر لم يجد منه بدا ، أو يقضي به فرضا ، ثم يقضي صلاته بعد .

                                                                                                                        4646 - ولو أجاب أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك خاصا له دون غيره ; لقوله : " استجيبوا لله وللرسول " .

                                                                                                                        4647 - وقد جاء من وجه صحيح في حديث أبي بن كعب هذا - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " ما منعك أن تجيبني ؟ أليس قد قال الله : " ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " [ سورة الأنفال : 24 ] .

                                                                                                                        4648 - وهذا يحتمل أن يكون الدعاء إلى الفرائض والإيمان ، ويحتمل في كل شيء ، وليس كلام الناس في الصلاة كذلك ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ، وقوله : [ ص: 184 ] " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ; إنما هو ذكر الله ، وقراءة القرآن " .

                                                                                                                        4649 - وهذا الحديث يدل على العموم والإجماع على تحريم الكلام ، ويدل على تخصيص النبي - عليه السلام - بذلك . والله أعلم .

                                                                                                                        4650 - وفيه وضع الرجل يده على يد صديقه إذا حدثه بحديث يريد أن يحفظه ، وهذا يستحسن من الكبير للصغير ; لما فيه من التأنيس والتأكيد في الود .

                                                                                                                        4651 - وفي قول أبي : يا رسول الله ، السورة التي وعدتني - دليل على حرصه على العلم ، ورغبته فيه . وكذلك كان إبطاؤه في مشيه محبة في العلم ، وحرصا عليه .

                                                                                                                        4652 - وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له : " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة " . قال : فقرأت عليه : " الحمد لله رب العالمين " - فقد استدل به بعض أصحابنا على سقوط " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول فاتحة الكتاب ، وعلى سقوط التوجيه .

                                                                                                                        4653 - وهذا لا حجة فيه ; لأن التوجيه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن عمر بن الخطاب ، وغيره . وقد جاءت به رواية عن مالك .

                                                                                                                        4654 - ولكنه يدل أنه لا شيء على من أسقطه ولم يأت به ، ولأنه لم يقل [ ص: 185 ] له : ما تقول إذا افتتحت الصلاة ؟ وإنما قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ فأجابه : إن القراءة في الصلاة لا تفتتح إلا بفاتحة الكتاب ، فلا يجوز أن يقرأ بغيرها إلا بعد الافتتاح بها ; بدليل هذا الحديث ، وما كان مثله . ولا حجة فيه في سقوط " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وإنما فيه دليل واضح على أنه يفتتح القراءة بها في الصلاة دون غيرها من سور القرآن ; لأن " الحمد لله رب العالمين " اسم لها ، كما يقال قرأت " يس والقرآن الحكيم " ، وقرأت " ن والقلم " ، وقرأت " ق والقرآن المجيد " ; وهذه كلها أسماء للسور ، وليس في ذلك ما يسقط " بسم الله الرحمن الرحيم " إذا قام الدليل بأنها آية من فاتحة الكتاب على ما نذكره في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

                                                                                                                        4655 - والقول في هذه المسألة بين المتنازعين قد طال ، وكثر فيه الشغب ، والذي أقول به : إنه من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " في فاتحة الكتاب ، أو غيرها متأولا - فلا حرج ; لأنه لم يقم بإيجاب قراءتها دليل ، لا معارض له ولا إجماع ; لأنه لا إجماع في أنها آية إلا في سورة النمل . ومن قرأها في فاتحة الكتاب أو غيرها - فلا حرج ; فقد رويت في ذلك آثار كثيرة عن النبي - عليه السلام - مرفوعة ، وعمل بها جماعة من السلف ، منهم : ابن عمر ، وابن عباس ، وقد روى ابن نافع عن مالك مثل ذلك ، وسنبين هذا في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

                                                                                                                        4656 - وفي ذلك دليل على أن فاتحة الكتاب تقرأ في أول ركعة ، وحكم [ ص: 186 ] كل ركعة كحكم تلك الركعة في القياس والنظر . وفي هذا حجة لمن أوجب قراءتها .

                                                                                                                        4657 - وأما المعنى في قول من قال : أم القرآن - فهو بمعنى أصل القرآن ، وأم الشيء : أصله ، كما قيل : أم القرى لمكة ، وقيل : لأنها أول ما يقرأ في الصلاة .

                                                                                                                        4658 - وكرهت طائفة أن يقال لها : أم القرآن ، وقالوا : فاتحة الكتاب ، ولا وجه لما كرهوا من ذلك ; لحديث أبي هريرة هذا ، وما كان مثله ، وفيه أم القرآن .

                                                                                                                        4659 - وأما قوله - عليه السلام - لأبي : " حتى تعلم سورة ما أنزل الله في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان - مثلها " - فمعناه : مثلها في جمعها لمعاني الخير ; لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله ، وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره ; لأن كل نعمة وخير فمنه ، لا من سواه ، فهو الخالق الرازق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو المحمود على ذلك ، وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد .

                                                                                                                        4660 - وفيها التعظيم له ، وأنه رب العالم أجمع ، ومالك الدنيا والآخرة ، وهو المعبود المستعان .

                                                                                                                        4661 - وفيها تعليم الدعاء إلى الهدى ، ومجانبة طريق من ضل وغوى ، والدعاء لباب العبادة ; فهي أجمع سورة للخير ، وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه . والله أعلم .

                                                                                                                        4662 - وقد : قيل إن معنى ذلك لأنها لا تجزئ الصلاة إلا بها دون غيرها ، [ ص: 187 ] ولا يجزئ غيرها منها ، وليس هذا بتأويل مجمع عليه .

                                                                                                                        4663 - وأما قوله : " هي السبع المثاني والقرآن العظيم " - فمعناه عندي هي السبع المثاني التي أعطيت ; لقوله - تعالى - : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر : 87 ] ، فخرج ( والقرآن العظيم ) على معنى التلاوة .

                                                                                                                        4664 - وأولى ما قيل به في تأويل السبع المثاني أنها فاتحة الكتاب ; لأن القول بذلك أرفع ما روي فيه ، وهو يخرج في التفسير المسند .

                                                                                                                        4665 - وقد روي عن ابن عباس في قوله - تعالى - : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " قال : فاتحة الكتاب ، قيل لها ذلك لأنها تثنى في كل ركعة .

                                                                                                                        4666 - وقال بذلك جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن ، منهم قتادة .

                                                                                                                        4667 - ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة في قوله : " سبعا من المثاني " قال : هي فاتحة الكتاب ; تثنى في كل ركعة مكتوبة وتطوع .

                                                                                                                        4668 - وقد روي عن ابن عباس أيضا في السبع المثاني أنها السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ; لأنها تثنى فيها حدود القرآن والفرائض .

                                                                                                                        [ ص: 188 ] 4669 - والقول الأول أثبت عن ابن عباس وهو الصحيح - إن شاء الله - في تأويل الآية ; لما ثبت عن النبي - عليه السلام - في ذلك .




                                                                                                                        الخدمات العلمية