الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1467 [ ص: 249 ] 28 - باب القضاء في الضواري والحريسة .

                                                                                                                        32641 - قال أبو عمر : الضواري ما ضر في الأذى ، والحريسة المحروسة من المواشي في المرعى .

                                                                                                                        [ ص: 250 ] 1434 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة ; أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ، ضامن على أهلها .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32642 - قال أبو عمر : ضامن هنا بمعنى مضمون .

                                                                                                                        [ ص: 251 ] 32643 - هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما رووا مرسلا .

                                                                                                                        32644 - واختلف أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب فيه ، فرواه الأوزاعي ، وصالح بن كيسان ، ومحمد بن إسحاق ، كما رواه مالك .

                                                                                                                        32645 - وكذلك رواه ابن عيينة ، إلا أنه جعل مع حرام بن سعد بن محيصة ، سعيد بن المسيب جميعا في هذا الحديث .

                                                                                                                        32646 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، عن أبيه ، ولم يقل فيه عن أبيه غير معمر .

                                                                                                                        32647 - قال محمد بن يحيى : لم يتابع عليه معمر .

                                                                                                                        32648 - وقال أبو داود : لم يتابع عليه عبد الرزاق ، عن معمر .

                                                                                                                        32649 - قال أبو عمر : وقال فيه ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم ، فأفسدت فيه ، وذكر مثل حديث مالك سواء إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ، ولا غيره .

                                                                                                                        32650 - ورواه ابن جريج ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف : أن ناقة دخلت في حائط قوم ، فأفسدت فيه ، فذهب أهل الحائط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : على أهل الأموال حفظ أموالهم نهارا ، فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل ، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء .

                                                                                                                        32651 - وجائز أن يكون الحديث عند ابن شهاب عن ابن محيصة ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن أبي أمامة ، والله أعلم ، فحدث به من شاء منهم على ما [ ص: 252 ] حضره ، وكلهم ثقات أثبات .

                                                                                                                        32652 - وعلى أي حال كان فالحديث من مراسيل الثقات ; لأن جميعهم ثقة ، وهو حديث تلقاه أهل الحجاز ، وطائفة من أهل العراق بالقبول ، والعمل .

                                                                                                                        32653 - وهو موافق لما نصه الله - عز وجل - في كتابه عن داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ الأنبياء : 78 ] ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهما فيمن أمره بالاقتداء بهم من أنبيائه بقوله تبارك اسمه : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] .

                                                                                                                        32654 - وقال تبارك وتعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 ، 79 ] .

                                                                                                                        32655 - ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن ولغة أهل العرب أن النفش لا يكون بالليل .

                                                                                                                        32656 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .

                                                                                                                        32657 - قال : وأخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك ، واختصموا إلى شريح ، فقال الشعبي : انظروا فإنه سيسألهم : أليلا وقعت فيه أم نهارا ، ففعل ، ثم قال : إن كان بالليل ضمن ، وإن كان بالنهار لم يضمن ، ثم [ ص: 253 ] قرأ شريح : إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] .

                                                                                                                        وقال : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .

                                                                                                                        32658 - قال : وقال معمر ، وابن جريج : بلغنا أن حرثهم كان عنبا .

                                                                                                                        32659 - واختلف الفقهاء في هذا المعنى على أربعة أقوال :

                                                                                                                        32660 - أحدها : كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن .

                                                                                                                        32661 - والثاني : لا ضمان فيما أصاب المنفلتة من الدواب والمواشي .

                                                                                                                        32662 - والثالث : ما أصابت بالليل فهو مضمون ، وما أصابت بالنهار فغير مضمون .

                                                                                                                        32663 - والرابع : الفرق بين الأموال والدماء .

                                                                                                                        32664 - فأما أقوال الفقهاء في هذا الباب ، فذكر ابن عبد الحكم ، قال : قال مالك : ما أفسدت المواشي والدواب من الزرع والحوائط بالليل ، فضمان ذلك على أهلها ، وما كان بالنهار ، فلا شيء على أصحاب الدواب ، ويقوم الزرع على الذي أفسدت بالليل على الرجاء والخوف .

                                                                                                                        32665 - قال : والحوائط التي تحرث والتي لا تحرث سواء ، والمخطر عليه ، وغير المخطر سواء ، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغت ، وإن كان أكثر من قيمتها .

                                                                                                                        [ ص: 254 ] 32666 - قال مالك : وإذا انفلتت دابة بالليل ، فوطئت على رجل قائم لم يغرم صاحبها شيئا ، وإنما هذا في الحوائط والزرع والحرث .

                                                                                                                        32667 - قال مالك : وإذا تقدم إلى صاحب الكلب الضاري ، أو البعير ، أو الدابة بما أفسدت ليلا أو نهارا ، فعليهم غرمه .

                                                                                                                        32688 - قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك ، وأصحابه في ذلك على ما ذكره ابن عبد الحكم في كتابه .

                                                                                                                        32668 م - وهو قول الشافعي وأصحابه إلا فيما ذكر من التقدم إلى صاحب الدابة الضارية ، أو الكلب الضاري ، والبعير الصئول فإن التقدم في ذلك سواء عنده ، وإنما يضمن عندهم في الدواب والمواشي ما أفسدت في الحائط والزرع والأعتاب والثمار بالليل دون النهار .

                                                                                                                        32669 - وستأتي مسألة الجمل الصئول ، والكلب العقور في موضعها إن شاء الله عز وجل .

                                                                                                                        32670 - وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع ، وشبهه بالليل دون النهار ; لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ، ورحالهم ليحفظوها ، ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم ; لأنها لا يمكن أربابها حفظها بالليل ; لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد أواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها ، وأما [ ص: 255 ] النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها ، وتعاهدها ، ودفع المواشي عنها .

                                                                                                                        32671 - ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيها لترعى ؛ فهو عيشها ، فألزم أهل الحوائط حفظها نهارا لذلك ، والله أعلم ، وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلا لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل .

                                                                                                                        32672 - ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضا وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم .

                                                                                                                        32673 - وهذا عندي - والله أعلم - إذا أطلقت الدواب والمواشي دون راع يرعاها .

                                                                                                                        32674 - وأما إذا كانت ترعى ومعها صاحبها ، فلم يمنعها من زرع غيره ، وهو قادر على منعها ، فهو المسلط لها ، وهو - حينئذ - كالسائق ، والراكب ، والقائد .

                                                                                                                        32675 - وسيأتي ذكر اختلاف الناس في ذلك عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : العجماء جرحها جبار - إن شاء الله عز وجل .

                                                                                                                        32676 - وقال الليث بن سعد : يضمن رب الماشية ما أفسدت بالليل والنهار ، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية .

                                                                                                                        32677 - قال أبو عمر : لم يفرق الليث بين الليل والنهار في هذا المعنى ، ولم يتجاوز بالضمان قيمة الماشية ، وأظنه قاسه على العبد الجاني ألا يفتكه سيده بأكثر من [ ص: 256 ] قيمته ، وأن جنايته في الليل والنهار سواء ، فخالف الحديث في العجماء جرحها جبار وخالف حديث ناقة البراء ، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء .

                                                                                                                        32678 - قال ابن جريج : قلت لعطاء : الحرث تصيبه الماشية ليلا أو نهارا ؟ قال يضمن صاحبها ويغرم .

                                                                                                                        قلت : كان عليه حظر أو لم يكن ؟ قال : نعم ، قلت : ما يغرم ؟ قال : يغرم قيمة ما أكل حماره ، ودابته ، وماشيته .

                                                                                                                        32679 - وقال معمر ، عن ابن شبرمة : يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم .

                                                                                                                        32680 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني حفص ، عن حجاج ، عن القاسم بن نافع ، قال : قال عمر : ما أصاب المنفلت ، فلا ضمان على صاحبه ، ومن أصاب المنفلت ضمن .

                                                                                                                        32681 - وقال : حدثني عبد السلام ، عن عمرو بن الحسن ، عن ابن سيرين - في الدابة المرسلة تصيب ما ليس عليه ضمان - قال : وحدثني أبو خالد ، عن الأشعث ، عن الشعبي ، قال : كل مرسلة ، فصاحبها ضامن .

                                                                                                                        32682 - وروي عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز تضمين رب الماشية ليلا ونهارا من طرق لا تصح .

                                                                                                                        32683 - وروي عنهما في البعير الضاري ; الجمل ، والحمار ، والبقرة الضارية أن يعهد إلى ربها ثلاثا ثم يعقرن ، وكانا يأمران كل من له حائط أن يحظره [ ص: 257 ] حظارا من النصارى يكون إلى نحر البعير ، فإن تسور رد إلى أهله ثلاث مرات ، ثم عقر .

                                                                                                                        32684 - قال أبو عمر : الصواب في هذا الباب - والله أعلم - أن يضمن رب الماشية ما أفسدت ليلا بالغا ما بلغت الجناية ; لأن الظاهر من حديث ناقة البراء الضمان مطلقا غير مقيد بقيمة الناقة وغيرها ، وأن حكم الليل في ذلك بخلاف حكم النهار .

                                                                                                                        32685 - وكان يحيى بن يحيى يفتي بقول الليث في ذلك ، يحمل الناس عليه ، وقضى به أكثر القضاة عندنا بعده ، واعتل عندهم بأن مالكا يذهب إلى ذلك في الدابة الضارية المعتادة الانطلاق على زرع الناس .

                                                                                                                        32686 - واختلف قول الثوري في هذه المسألة :

                                                                                                                        32687 - فروى ابن المبارك عنه أنه لا ضمان على أصحاب الماشية بالليل ، ولا بالنهار .

                                                                                                                        32688 - وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، قالوا : لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده ، أو تجني عليه ، لا في الليل ، ولا في النهار ، إلا أن يكون راكبا ، أو سائقا ، أو قائدا .

                                                                                                                        32689 - وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العجماء جرحها جبار ، وقالوا : هذا حكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما شرع لداود وسليمان .

                                                                                                                        32690 - قال الله عز وجل : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ المائدة : 48 ] .

                                                                                                                        [ ص: 258 ] 32691 - وروى الواقدي ، عن الثوري في شاة وقعت في غزل حائك بالنهار أنه يضمن .

                                                                                                                        32962 - فقال الطحاوي : تصحيح الروايتين عنه أنه إذا أرسلها محفوظة لم يضمن بالليل ولا بالنهار ، وإذا أرسلها سائبة ضمن .

                                                                                                                        32693 - قال أبو عمر : إذا كان على أهل الحوائط حفظها بالنهار فقد فعل أرباب المواشي إذا سيبوها ما أبيح لهم ، فلا ضمان عليهم ، على ظاهر حديث ناقة البراء ، والله أعلم .




                                                                                                                        الخدمات العلمية