الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3076 [ 1707 ] وعن عامر بن سعد، عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا". قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: " لا، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك. قال: قلت: يا رسول الله، أأخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة. قال: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة.

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 179 )، والبخاري (6733)، ومسلم (1628) (5)، والترمذي (2116)، والنسائي ( 6 \ 241 )، وابن ماجه (2705).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله في حديث سعد : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجع أشفيت منه على الموت ) عادني: زارني. ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض. فأما الزيارة فأكثرها للصحيح. وقد تقال للمريض. فأما قوله تعالى: حتى زرتم المقابر [التكاثر: 2] [ ص: 543 ] فكناية عن الموت.

                                                                                              و (الوجع) اسم لكل مرض. قاله الحربي . و ( أشفيت ): أشرفت. يقال: أشفى وأشاف بمعنى واحد. قاله الهروي . وقال القتبي : لا يقال: أشفى إلا على شر.

                                                                                              وفيه: عيادة الفضلاء والكبراء للمرضى، وتفقد الرجل الفاضل أصحابه وإخوانه.

                                                                                              و (قوله: بلغني من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي ) فيه ما يدل على أن إخبار المريض بحاله لا على جهة التشكي والتسخط جائز، وغير منقص لثوابه. ألا ترى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه إنكار، ولا تنبيه على تنقيص أجر ولا غيره.

                                                                                              و ( ذو مال ): وإن صلح للكثير والقليل الذي ليس بتافه؛ فالمراد به ها هنا: المال الكثير بقرينة الحال.

                                                                                              و (قوله: ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة ) ظاهر هذا: أنه ليس له وارث إلا ابنة واحدة. وليس كذلك. فإنه كان له ورثة وعصبة. وإنما معنى ذلك: لا يرثني بالسهم إلا ابنة واحدة. وقيل: لا يرثني من النساء إلا ابنة واحدة. وكلاهما محتمل. ثم أفاق من مرضه، وكان له بعده ثلاثة من الولد ذكور؛ أحدهم: اسمه عامر ، وهو راوي هذا الحديث عن أبيه كما ذكرناه.

                                                                                              و (قوله: أفأتصدق بثلثي مالي؛ قال: لا ) ظاهر هذا السؤال: أنه إنما سأل عن الوصية بثلثي ماله لتنفذ بعد الموت. يدل على ذلك: قرائن المرض، وذكر الورثة، وغير ذلك. ويحتمل: أن يكون عن صدقة بتلة، يخرجها في الحال. وفيه بعد. وكيف ما كان فقد أجيب: بأن ذلك لا يجوز إلا في الثلث خاصة.

                                                                                              قال [ ص: 544 ] القاضي عياض : أجمع العلماء: على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله إلا شيئا روي عن بعض السلف، أجمع الناس بعده على خلافه. والجمهور: على أنه لا يوصي بجميع ماله، وإن لم يكن له وارث. وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه، وإسحاق ، وأحمد ، ومالك - في أحد قوليهما - إلى جواز ذلك. وروي عن علي ، وابن مسعود . وسبب هذا الخلاف: الخلاف في بيت المال هل هو وارث، أو حافظ لما يجعل فيه.

                                                                                              وفيه دليل: على أن المريض محجور عليه في ماله. وهو مذهب الجمهور. وشذ أهل الظاهر، فقالوا: لا يحجر عليه في ماله وهو كالصحيح. وظاهر هذا: الحديث، والنظر، والمعنى: حجة عليهم.

                                                                                              ومنع أهل الظاهر الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة. وهو الصحيح؛ لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ) فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا وصحيحا.

                                                                                              و (قوله: الثلث، والثلث كثير ) وروي: (الثلث) الأول بالرفع على الابتداء، وإضمار الخبر؛ أي: الثلث كافيك. وقيل: يجوز على أن يكون فاعلا لفعل مضمر.

                                                                                              قلت: وفيه ضعف؛ لأنه لا يكون ذلك إلا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة، كقوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6]، على خلاف بين الكوفيين والبصريين. فالبصريون يرفعونه بالفعل. والكوفيون بالابتداء. وروي بالنصب على أن يكون [ ص: 545 ] مفعولا بفعل مضمر تقديره: نفذ الثلث. أو: أمض الثلث. وما أشبهه، وقيل: على الإغراء. وفيه بعد.

                                                                                              وهو حجة للجمهور على جواز الوصية بالثلث على من شذ، وخالفهم، وقال: لا يجوز إلا بالربع، لكن لما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم الثلث؛ قال ابن عباس : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع حضا على ذلك. وكل ذلك رفق بالورثة، وترجيح لجانبهم على الصدقة للأجانب.

                                                                                              قلت: وعلى هذا فمن حسنت نيته فيما يبقيه لورثته كان أجره في ذلك أعظم من الصدقة به، لا سيما إذا كانوا ضعافا، والله تعالى أعلم.

                                                                                              و (قوله: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ) روايتنا في (أن تذر) بفتح الهمزة، و (أن) مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره (خير) المذكور بعده، والمبتدأ وخبره خبر (إنك) تقديره: إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء. وقد وهم من كسر الهمزة من (أن) وجعلها شرطا؛ إذ لا جواب له ويبقى (خير) لا رافع له. فتأمله.

                                                                                              و (العالة): الفقراء. و ( يتكففون الناس ): يسألون الصدقة من أكف الناس: أو يسألونهم بأكفهم. وهذا يدل على أنه كان له ورثة غير الابنة التي ذكرها، ويصحح ذلك التأويل الذي ذكرناه.

                                                                                              وفيه دليل: على صحة ميراث ذي السهم مع العصبة. ولا خلاف فيه.

                                                                                              و (قوله: ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ) هذا يفيد بمنطوقه: أن الأجر في النفقات لا يحصل إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل وإن كانت واجبة. وبمفهومه: أن من لم يقصد القربة لم يؤجر على شيء منها. [ ص: 546 ] والمعنيان صحيحان. يبقى أن يقال: فهل إذا أنفق نفقة واجبة على الزوجة، أو الولد الفقير، ولم يقصد التقرب؛ هل تبرأ ذمته، أم لا؟ فالجواب: أنها تبرأ ذمته من المطالبة؛ لأن وجوب النفقة من العبادات المعقولة المعنى، فتجري بغير نية، كالديون، وأداء الأمانات، وغيرها من العبادات المصلحية، لكن إذا لم ينو لم يحصل له أجر. وقد قررنا هذا في أصول الفقه. ويفهم منه بحكم عمومه: أن من أنفق نفقة مباحة، وصحت له فيها نية التقرب أثيب عليها، كمن يطعم ولده لذيذ الأطعمة ولطيفها ليرد شهوته، ويمنعه من التشوف لما يراه بيد الغير من ذلك النوع، وليرق طبعه، فيحسن فهمه، ويقوى حفظه، إلى غير ذلك مما يقصده الفضلاء.

                                                                                              و (قوله: حتى اللقمة تضعها في في امرأتك ) يجوز في (اللقمة) النصب على عطفها على (نفقة). وأظهر من ذلك أن تنصبها بإضمار فعل؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضميره. وهذا كقول العرب: أكلت السمكة حتى رأسها أكلته. وقد أجاز في (رأسها) الرفع، والنصب، والجر، وأوضح هذه الأوجه: النصب. وأبعدها الخفض. وكل ذلك جائز في (حتى اللقمة) ها هنا فنزله عليه. والذي به قرأت هذا الحرف: النصب لا غير. وإنما خص الزوجة بالذكر لأن نفقتها دائمة، تعود منفعتها إلى المنفق، فإنها تحسنها في بدنها، ولباسها، وغير ذلك. فالغالب من الناس: أنه ينفق على زوجته لقضاء وطره، وتحصيل شهوته، وليس كذلك النفقة على الأبوين، فإنها تخرج بمحض الكلفة، والمشقة غالبا، فكانت نية التقرب فيها أقرب وأظهر. والنفقة على الولد فيها شبه من نفقة الزوجة، ومن نفقة الأبوين، من حيث المحبة الطبيعية، والكلفة الوجودية.

                                                                                              [ ص: 547 ] وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لسعد هذا الكلام في هذا الموطن تنبيها على الفوائد التي تحصل بسبب المال، فإنه إن مات أثيب على ترك ورثته أغنياء من حيث إنه وصل رحمهم، وأعانهم بماله على طاعة الله تعالى، كما قال: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة ) أي: ذلك أفضل من صدقتك بمالك، وإن لم تمت حصل لك أجر النفقات الواجبة والمندوب إليها. ويخرج من هذا الحديث: أن كسب المال وصرفه على هذه الوجوه أفضل من ترك الكسب، أو من الخروج عنه جملة واحدة. وكل هذا: إذا كان الكسب من الحلال الخلي عن الشبهات؛ الذي قد تعذر الوصول إليه في هذه الأوقات.

                                                                                              و (قوله: أأخلف بعد أصحابي؟ ) هذا الاستفهام إنما صدر عن سعد مخافة أن يكون مقامه بمكة بعد أصحابه إلى أن يموت بها قادحا في هجرته، كما قد نص عليه في الرواية الأخرى؛ إذ قال فيها: ( لقد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها ). فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي: أن ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره إلى أن ينتفع به قوم، ويستضر به آخرون. وقد كان ذلك. فإنه عاش بعد ذلك نيفا وأربعين سنة، وولي بالعراق أميرا، وفتحها الله تعالى على يديه، فأسلم على يديه بشر كثير، فانتفعوا به، وقتل وأسر من الكفار خلقا كثيرا، فاستضروا به، فكان ذلك القول من أعلام نبوته، وأدلة صدق رسالته.

                                                                                              و (قوله: اللهم ! أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم ) يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم وأحكامها. ويفيد: أن استصحاب أحكامها كان واجبا على من هاجر، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه، وترك المدينة إلى أن [ ص: 548 ] يموت بها، وإن كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عمن لم يهاجر يوم الفتح، حيث قال: (لا هجرة بعد الفتح) وقال: (إن الهجرة قد مضت لأهلها) أي: من كان هاجر قبل الفتح صحت له هجرته، ولزمه البقاء عليها إلى الموت. ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه. ومن نقض الهجرة خاف المهاجرون ، حيث تحرجوا من مقامهم بمكة في حجة الوداع. وهذا هو الذي خاف منه سعد . فإن قضيته هذه كانت في حجة الوداع. وهذا هو الذي نقمه الحجاج على ابن الأكوع لما ترك المدينة ولزم الربذة فقال: تغربت يا ابن الأكوع؟ ! فأجابه: بأن قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو. وهذا هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث. وبه قال بعض أهل العلم. وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( لكن البائس سعد بن خولة ) رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة ، وسيأتي الكلام عليه.

                                                                                              وقال آخرون: إن وجوب الهجرة؛ ووجوب استدامة حكمها؛ قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرته، ولأخذ شريعته، ومشافهته، وللكون معه اغتناما لبركته. ثم لما مات: فمنهم من أقام بالمدينة ، وأكثرهم ارتحل عنها. ولما فتحت الأمصار استوطنوها، وتركوا سكنى المدينة . فاستوطن الشام قوم منهم، واستوطن آخرون العراق ، وآخرون مصر .

                                                                                              [ ص: 549 ] وتأول أهل هذا القول ما تقدم: بأن ذلك إنما كان منهم مخافة أن تنقص أجورهم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينقصهم شيئا من ذلك. وللأولين أن ينفصلوا عن هذا، بأن يقولوا: إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد وفتح البلاد، وإظهار الدين، ونشر العلم، حتى أنفذوا في ذلك أعمارهم، ولما يقضوا من ذلك أوطارهم.

                                                                                              و (قوله: لكن البائس سعد بن خولة ) البائس: اسم فاعل من بئس، يبأس: إذا أصابه بؤس، وهو الضرر. وسعد بن خولة : هو زوج سبيعة الأسلمية ، وهو رجل من بني عامر بن لؤي ، من أنفسهم. وقيل: حليف لهم. وقيل: إنه مولى أبي رهم بن عبد العزى العامري .

                                                                                              واختلف في أمره؛ فقال ابن مزين ، وعيسى بن دينار : إنه لم يهاجر من مكة حتى مات فيها. والأكثر على أنه هاجر ثم رجع إلى مكة مختارا. وعلى هذين القولين يكون بؤسه ذما له؛ إما لعدم هجرته، وإما لفسخها برجوعه عنها. وقال ابن هشام : إنه هاجر الهجرة إلى الحبشة ، والهجرة الثانية، وشهد بدرا، وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع. وعلى هذا فلا يكون بؤسه ذما له، بل توجعا له ورحمة؛ إذ كان منه: أنه هاجر الهجرتين، ثم إنه مات بعد ذلك بمكة ، فيكون إشعارا بما قدمناه من نقص ثواب من اتفق له ذلك. ومن ذلك تحرج سعد ، والمهاجرون . والله تعالى أعلم.

                                                                                              وظاهر هذا القول: أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال المحدثون: انتهى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لكن البائس سعد بن خولة ) وأما قوله بعد ذلك: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة ؛ [ ص: 550 ] فظاهره: أنه من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل: هو قول سعد بن أبي وقاص . وقد جاء ذلك في بعض طرقه. وأكثر الناس على أنه من قول الزهري . والله تعالى أعلم.

                                                                                              وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث انقطاع في أصل كتاب مسلم. وهو من المواضع المنقطعة الأربعة عشر، لكن لا يضر ذلك إن صح؛ لأنه قد رواه من طرق أخر متصلة.




                                                                                              الخدمات العلمية