الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل : وإن حلف لا يتزوج ، ولا يتطهر ، ولا يتطيب ، فاستدام ذلك ، لم يحنث . وإن حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك ، حنث ، وإن حلف لا يدخل دارا هو داخلها ، فأقام فيها ، حنث عند القاضي ، ولم يحنث عند أبي الخطاب . وإن حلف لا يدخل على فلان بيتا ، فدخل فلان عليه فأقام معه ، فعلى الوجهين ، وإن حلف لا يسكن دارا ، أو لا يساكن فلانا وهو مساكنه ، فلم يخرج في الحال حنث ، إلا أن يقيم لنقل متاعه ، أو يخشى على نفسه الخروج ، فيقيم إلى أن يمكنه ، وإن خرج دون متاعه وأهله حنث ، إلا أن يودع متاعه أو يعيره ، أو تأبى امرأته الخروج معه ، ولا يمكنه إكراهها ، فيخرج وحده ، فلا يحنث ، وإن حلف لا يساكن فلانا ، فبنيا بينهما حائطا وهما متساكنان حنث ، وإن كان في الدار حجرتان ، كل حجرة تختص ببابها ومرافقها ، فسكن كل واحد حجرة ، لم يحنث . وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة ، فخرج وحده دون أهله بر ، وإن حلف ليخرجن من الدار ، فخرج دون أهله لم يبر ، وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة ، أو ليرحلن عن هذه الدار ففعل ، فهل له العود إليها ؛ على روايتين .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( وإن حلف لا يتزوج ، ولا يتطهر ، ولا يتطيب ، فاستدام ذلك لم يحنث ) [ ص: 316 ] في قولهم جميعا ، لأنه لا يطلق اسم الفعل على مستديم هذه الثلاثة ، فلا يقال : تزوجت شهرا ، ولا تطهرت شهرا ، ولا تطيبت شهرا ، وإنما يقال : منذ شهر ، ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة استدامته في الإحرام ( وإن حلف لا يركب ، ولا يلبس ) ولا يقوم ، ولا يقعد ، ولا يسافر ( فاستدام ذلك ، حنث ) وهو قول أكثرهم ، لأن المستديم يطلق عليه ذلك ، بدليل أنه يقال : ركب شهرا ، ولبس شهرا ، وقد اعتبر الشارع هذا في الإحرام ، حيث حرم لبس المخيط ، فأوجب الكفارة باستدامته ، كما أوجبها في ابتدائه ، وقال أبو محمد الجوزي : في اللبس استدامة حنث إن قدر على نزعه ، ويلحق ما لو حلف لا يلبس من غزلها ، وعليه منه شيء ، نص عليه ، أو لا يطأ ، فاستدام ذلك ، ذكره في الانتصار ، أو لا يضاجعها على فراش فضاجعته ودام ، نص عليه ، لأن المضاجعة تقع على الاستدامة ، ولهذا يقال : اضطجع على الفراش ليلة ، قال القاضي وابن شهاب : الخروج والنزع لا يسمى سكنا ولا لبسا ، والنزع جماع ، لاشتماله على إيلاج وإخراج ، فهو شطره ، وجزم في منتهى الغاية لا يحنث بالنزع في الحال وفاقا ، وكذا إذا حلف لا يمسك ، ذكره في الخلاف ، أو لا يشاركه فدام ، ذكره في الروضة ( وإن حلف لا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها ، حنث عند القاضي ) لم يذكر ابن هبيرة عن أحمد غيره ، وجزم به في الوجيز ، وصححه في الفروع ، لأن استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم ( ولم يحنث عند أبي الخطاب ) لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ، ولهذا يقال : دخلتها منذ شهر ، ولا يقال : دخلتها شهرا ، فجرى مجرى التزويج ، ولأن الانفصال من خارج إلى داخل ، ولا يوجد في الإقامة ، قال أحمد : أخاف أن يكون قد [ ص: 317 ] حنث ، قال السامري : فحمله أبو الخطاب على أنه قصد الامتناع من الكون في داخلها ، وإلا فلا يحنث ، حتى يبتدئ دخولها ، وقيل : لا يحنث ، إلا أن ينوي فرقة أهلها ، أو عدم الكون فيها ، أو السبب يقتضيه وإلا إذا دخل ( وإن حلف لا يدخل على فلان بيتا ، فدخل فلان عليه ، فأقام معه ، فعلى الوجهين ) لأن الإقامة هنا كالإقامة في المسألة التي قبلها ، والأصح الحنث ، إن لم تكن له نية ( وإن حلف لا يسكن دارا ) وهو ساكنها ، أو لا يركب دابة هو راكبها ، أو لا يلبس ثوبا هو لابسه ( أو لا يساكن فلانا وهو مساكنه ، فلم يخرج في الحال ، حنث ) لأن استدامة السكنى سكنى ، بدليل أنه يصح أن يقال : سكن الدار شهرا ( إلا أن يقيم لنقل متاعه ) وأهله ، ذكره في المغني وغيره ، لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال ، ويكون نقله على ما جرت به العادة ، لا ليلا ، وإن تردد إلى الدار لنقل المتاع ، أو عيادة مريض ، لم يحنث ، ذكره في الكافي ، ونصره في الشرح ، لأن هذا ليس بسكنى ، وقال القاضي : يحنث إن دخلها ، وإن تردد زائرا فلا ، لأنها ليست سكنى ، ذكره الشيخ تقي الدين وفاقا ، ولو طالت مدتها ( أو يخشى على نفسه الخروج ، فيقيم إلى أن يمكنه ) لأنه أقام لدفع الضرر ، وإزالته عند ذلك مطلوبة شرعا ، فلم يدخل تحت النهي ( وإن خرج دون متاعه ) المقصود ( وأهله ) مع إمكان نقلهم ، وظاهر نقل ابن هانئ ، وهو ظاهر الواضح وغيره ، أو ترك له به شيئا ( حنث ) وهو قول أكثرهم ، لأن السكنى تكون بالأهل والمال ، ولهذا يقال : فلان ساكن في البلد الفلاني ، وهو غائب عنه ، [ ص: 318 ] وإن نزل بلدا بأهله وماله ، فيقال : سكنه ، لكن إن خرج عازما على السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذين في الدار ، لم يحنث ، زاد في الشرح : فيما بينه وبين الله تعالى ، وقيل : إن خرج بأهله ، فسكن بموضع ، وقيل : أو وجده بما يتأثث به فلا .

                                                                                                                          فرع : إذا أقام في الدار لإكراه ، أو ليل ، أو يحول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة ، أو لعدم ما ينقل عليه متاعه ، أو منزل ينتقل إليه أياما وليالي في طلب النقلة ، لم يحنث ، وإن أقام غير ناو لها حنث ، ذكره في الكافي والشرح .

                                                                                                                          ( إلا أن يودع متاعه أو يعيره ) أو يزول ملكه عنه ( أو تأبى امرأته الخروج معه ، ولا يمكنه إكراهها ، فيخرج وحده ، فلا يحنث ) لأن زوال اليد والعجز لا يتصور معهما حنث ( وإن حلف لا يساكن فلانا ، فبنيا بينهما حائطا ، وهما متساكنان ، حنث ) هذا هو المذهب ، إذا كانا في دار حالة اليمين ، وتشاغلا ببناء الحائط ، لأنهما متساكنان قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى ، لا نعلم فيه خلافا ، قاله في الشرح ، وذكر السامري والمجد قولا بأنه لا يحنث ، فإن خرج أحدهما منها ، وقسماها حجرتين ، وفتحا لكل واحدة منهما بابا ، وبينهما حاجز ، وسكن كل واحد حجرة ، لم يحنث لأنهما غير متساكنين ، وقال مرة : لا يعجبني ذلك ، ويحتمله قياس المذهب ، لكونه عين الدار ، والأول أصح ، لأنه لم يساكنه فيها ( وإن كان في الدار حجرتان ، كل حجرة تختص ببابها ومرافقها ، فسكن كل واحد حجرة ) ولا نية ، ولا سبب ، قاله في الرعاية والفروع ( لم يحنث ) [ ص: 319 ] لأن كل واحد ساكن في حجرته ، فلا يكون مسكنا لغيره ، وكذا إن سكنا في دارين متجاورتين ، قال في الفنون فيمن قال : أنت طالق ثلاثا إن دخلت علي البيت ، ولا كنت لي زوجة إن لم تكتبي لي نصف مالك ، فكتبت له بعد ستة عشر يوما ، تقع الثلاث ، لأنه يقع باستدامة المقام ، فكذا استدامة الزوجية .

                                                                                                                          ( وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة ، فخرج وحده دون أهله بر ) لأن حقيقة الخروج لم يعارضها معارض ، فوجب حصول البر لحصول الحقيقة ، وكذا إن حلف ليخرجن من الدار ولا يأوي أو ينزل فيها ، نص عليهما ، أو لا يسكن البلد ، أو ليرحلن منه ، فكحلفه لا يسكن الدار ، قاله في الفروع ( وإن حلف ليخرجن من الدار ، فخرج دون أهله لم يبر ) لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة ، وظاهر حاله إرادة المعتاد ، بخلاف البلد ، وإن حلف لا يسكنها وهو خارج عنها فدخلها ، أو كان فيها غير ساكن فدام جلوسه ، فوجهان ، وقيل : إن قصد الامتناع من الكون فيها حنث ، وإلا فلا ، وقيل : إن انتقل إليها برحله الذي يحتاجه الساكن حنث ، وإلا فلا ، وقال القاضي : ولو بات ليلتين فلا حنث ، وفي الشرح : إذا حلف على الرحيل عن بلد لم يبر إلا برحيل أهله ( وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة ، أو ليرحلن عن هذه الدار ففعل ، فهل له العود إليها ؛ على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما : لا شيء عليه في العود ، قدمه في الرعاية ، ورجحه في الكافي والشرح ، وصححه في الفروع ، لأن يمينه على الخروج ، وقد خرج فانحلت يمينه ، وإذا كان كذلك صار بمنزلة [ ص: 320 ] من لم يحلف ، ولقوله : إن خرجت فلك درهم ، استحق بخروج أول ، ذكره القاضي وغيره .

                                                                                                                          والثانية : يحنث بالعود ، لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ، والعود ينافي مقصود يمينه ، فأما إن كان له نية ، أو سبب ، أو قرينة ، عمل بها .




                                                                                                                          الخدمات العلمية