الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        [ ص: 272 ] 31 - باب القضاء في الحمالة والحول .

                                                                                                                        1441 - قال مالك : الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه ، أنه إن أفلس الذي أحيل عليه ، أو مات فلم يدع وفاء ، فليس للمحتال على الذي أحاله شيء ، وأنه لا يرجع على صاحبه الأول .

                                                                                                                        قال مالك : وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا .

                                                                                                                        [ ص: 273 ] قال مالك : فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر ، ثم يهلك المتحمل ، أو يفلس ، فإن الذي تحمل له ، يرجع على غريمه الأول .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32758 - قال أبو عمر : عند مالك في باب الحوالة حديث مسند ، رواه عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على مليء ، فليتبع .

                                                                                                                        32759 - وهذا الحديث في رواية يحيى عن مالك في الموطأ في باب جامع الدين والحول من كتاب البيوع ، وهو عند جماعة من رواة الموطأ هاهنا .

                                                                                                                        32760 - والحوالة عند مالك ، وأكثر العلماء خلاف الحمالة .

                                                                                                                        32761 - والذي عليه مالك وأصحابه في الحوالة ما ذكره في الموطأ إلا أنه لم يذكر : إذا غره من فلس علمه فإنه يرجع عليه كالحمالة ، وكذلك لو أحاله على من لا دين له عليه ، فهي حمالة يرجع بها إن لحقه توا .

                                                                                                                        32762 - وقد ذكر هذا من الوجهين ابن القاسم وغيره عن مالك ، قالوا عن [ ص: 274 ] مالك : إذا حال غريمه عن غريم له ، فقد برئ المحيل ، ولا يرجع عليه المحال بإفلاس ، ولا موت إلا أن يغره من فلس علمه من غريمه الذي أحال عليه ، فإن كان ذلك رجع عليه ، وإن لم يغره من فلس علمه إذا كان له دين ، وإن غره ، أو لم يكن عليه شيء ، فإنه يرجع عليه إذا أحاله ، قال : وهذه حمالة .

                                                                                                                        32763 - وقال الشافعي : يرجع المحيل بالحوالة ، ولا يرجع عليه بموت ، ولا إفلاس .

                                                                                                                        32764 - وهو قول أحمد ، وأبي عبيد ، وأبي ثور أنه لا يرجع على المحيل بموت ، ولا إفلاس ، وسواء غره ، أو لم يغره من فلس عند الشافعي ، وغيره .

                                                                                                                        32765 - وقال أبو حنيفة وأصحابه يبدأ المحيل بالحوالة ، ولا يرجع عليه إلا بعد التوي .

                                                                                                                        32766 - والتوي عند أبي حنيفة أن يموت المحال عليه مفلسا ، أو يحلف ما له من شيء ، ولم تكن للمحيل بينة .

                                                                                                                        32767 - وقال أبو يوسف ، ومحمد : هذا توي ، وإفلاس المحال عليه توي أيضا .

                                                                                                                        32768 - وقال شريح ، والشعبي ، والنخعي : إذا أفلس ، أو مات رجع على المحيل .

                                                                                                                        32769 - وقال عثمان البتي : الحوالة لا تبرئ المحيل إلا أن يشترط براءته ، فإن [ ص: 275 ] شرط البراءة بيد المحيل إذا أحاله على مليء ، وإن أحاله على مفلس ، ولم يقل إنه مفلس فإنه يرجع عليه ، وإن أبرأه ، وإن أعلمه أنه مفلس وأبرأه لم يرجع على المحيل .

                                                                                                                        32770 - وروى ابن المبارك ، عن الثوري إذا أحاله على رجل فأفلس ، فليس له أن يرجع على الآخر إلا بمحضرهما ، وإن مات وله ورثة ، ولم يترك شيئا رجع حضروا ، أو لم يحضروا .

                                                                                                                        32771 - وروى المعافي ، عن الثوري : إذا كفل لمدين رجل بمال وأبرأه برئ ، ولا يرجع إلا أن يفلس الكبير أو يموت ، فيرجع على صاحبه حينئذ .

                                                                                                                        32772 - وقال الليث في الحوالة : لا يرجع إذا أفلس المحال عليه .

                                                                                                                        32773 - وقال زفر ، والقاسم بن معن في الحوالة : له أن يأخذ كل واحد منهما بمنزلة الكفالة .

                                                                                                                        32774 - وقال ابن أبي ليلى : يبرأ صاحب الأصل بالحوالة .

                                                                                                                        32775 - قال أبو عمر : هذا اختلافهم في الحوالة ، وأما الكفالة والحمالة ، وهما لفظتان معناهما الضمان ، فاختلاف العلماء في الضمان على ما أورده بحول الله لا شريك له .

                                                                                                                        32776 - قال مالك : وإذا كان المطلوب مليا بالحق لم يأخذ الكفيل الذي كفل به عنه ، ولكنه يأخذ حقه من المطلوب ، فإن نقص شيء من حقه أخذه من مال الحميل ، إلا أن يكون الذي عليه الحق عليه ديون لغيره ، فيخاف صاحب الحق أن يخاصمه الغرماء ، أو كان غائبا ، فله أن يأخذ الحميل ، ويدعه .

                                                                                                                        32777 - قال ابن القاسم : لقد كان يقول : له أن يأخذ أيهما شاء ، ثم رجع [ ص: 276 ] إلى هذا القول .

                                                                                                                        32778 - وقال الليث : إذا كفل المال ، وعرف مبلغه جاز عليه ، وأخذ به ، وقال : إن كفلت لك بحقك ، ولم أعرف الحق لم يجبر ; لأنه مجهول .

                                                                                                                        32779 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كفل عن رجل بمال ، فللطالب أن يأخذ من أيهما شاء من المطلوب ، ومن الكفيل .

                                                                                                                        32780 - وقال أبو ثور : الكفالة والحوالة سواء ، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه ، وبرئ المضمون عنه ، قال : ولا يجوز أن يكون مالا واحدا عن اثنين .

                                                                                                                        32781 - وهو قول ابن أبي ليلى ; قال أبو يوسف : قال ابن أبي ليلى : ليس له أن يأخذ الذي عليه الأصل ، قال : وإن كان رجلان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه كان له أن يأخذ أيهما شاء .

                                                                                                                        32782 - قال أبو يوسف : وقال ابن شبرمة في الكفالة : إن اشترط أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه ، فأيهما اختار أخذه ، وبرئ الآخر ، إلا أن يشترط أخذها ، إن شاء جميعا .

                                                                                                                        32783 - وروى شعيب بن صفوان ، عن ابن شبرمة فيمن ضمن عن رجل مالا أنه يبرأ المضمون عنه ، والمال على الكفيل .

                                                                                                                        32784 - وقال في رجلين أقرضا رجلا ألف درهم على أن كل واحد منهما [ ص: 277 ] كفيل عن صاحبه ، فليس له أن يأخذ أحدهما بأصل المال ، وإنما له أن يأخذ بما كفل له عن صاحبه ، وهذه خلاف رواية أبي يوسف .

                                                                                                                        32785 - قال أبو عمر : هذه أقوالهم ، ومذاهبهم في الكفالة بالمال ، وأما الكفالة بالنفس ، فهي جائزة عند مالك ، وأصحابه ، إلا في القصاص والحدود .

                                                                                                                        32786 - وهو قول الأوزاعي ، والليث ، وأبي حنيفة ، وأصحابه .

                                                                                                                        32787 - وأما الشافعي ، فمرة ضعف الكفالة بالنفس على كل حال ، ومرة أجازها على المال .

                                                                                                                        32788 - وقال مالك : إذا كفل بنفسه إلى أجل وعليه مال غرم المال إن لم يأت به عند الأجل ، ويرجع به على المطلوب ، فإن اشترط الضامن بالنفس أنه لا يضمن المال كان ذلك له ، ولم يلزمه شيء من المال .

                                                                                                                        32789 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا كفل بالنفس ، ومات المطلوب برئ الكفيل ، ولم يلزمه شيء .

                                                                                                                        32790 - وقال عثمان البتي : إذا كفل بنفس في قصاص ، أو جراح فإنه إن لم يجئ به لزمته الدية ، أو أرش الجناية ، وهي له في مال الجاني ، ولا قصاص - علمت - على الكفيل .

                                                                                                                        32791 - قال أبو عمر : أما الحوالة ، فالأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .

                                                                                                                        [ ص: 278 ] 32792 - وهذا هو الحالة بعينها بدليل رواية يونس بن عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مطل الغني ظلم ، وإذا أحلت على مليء فاتبعه .

                                                                                                                        32793 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أحلت على مليء ، فاتبعه وقوله : إذا أتبع أحدكم على مليء ، فليتبع ، دليل على أنه إذا أحيل على غير مليء لم تصح الإحالة .

                                                                                                                        32794 - وفي ذلك ما يوضح لك ما ذهب إليه مالك - رحمه الله - أن المحيل إذا غر المحال من فلس المحال عليه ، فإنه لا تلزمه الحوالة ، وله رجوعه بماله على المحال ; لأنه لما شرط المليء في الحوالة دل ذلك على أن عدم ذلك يوجب غرم المال .

                                                                                                                        32795 - ولا حجة عندي للكوفيين فيما نزعوا به من هذا الحديث أنه إذا أفلس المحال عليه ، أو مات كان له الرجوع; لأن زوال الملك يوجب الرجوع على المحال .

                                                                                                                        32796 - ولهم في ذلك حجج من جهة المقايسات ، لم أر لذكرها وجها .

                                                                                                                        32797 - وكذلك قالوا إن ظاهر الحديث يوجب جواز الحوالة على من لا دين عليه للمحيل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين من عليه دين للمحيل ، وبين من لا دين عليه .

                                                                                                                        32798 - وهذا عندي ليس كما قالوا ; لأن الحوالة معناها ابتياع ذمة بذمة ، [ ص: 279 ] ومن لا دين عليه ليس للمحيل عليه شيء ، إلا أنهم جعلوا التطوع بما في الذمة كالذمة التي تكون عن بدل .

                                                                                                                        32799 - والكلام في هذا تشغيب ، وفيه تعسف ، وشغب ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        32800 - وقال أهل الظاهر : الحوالة على المليء لازمة ، رضي بها أو لم يرض وليس بشيء ; لأن ابتياع الذمم بالذمم كابتياع الأعيان في سائر التجارات ، والتجارة لا تكون إلا عن تراض .

                                                                                                                        32801 - وأما الأصل في الضمان ، فقول الله عز وجل : وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] أي كفيل ، وحميل ، وضامن .

                                                                                                                        32802 - ومن السنة حديث قبيصة بن المخارق ، قال : تحملت حمالة ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عنها ؟ ، فقال : نخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث : رجل تحمل حمالة ، فحلت له المسألة حتى يردها ، ثم يمسك ، وذكر تمام الحديث .

                                                                                                                        32803 - وفي إحلاله المسألة لمن تحمل حمالة عن قوم دليل على لزوم الحمالة للمتحمل ، ووجوبها عليه .

                                                                                                                        32804 - وقد استدل بهذا الحديث من قال : إن المكفول له تجوز له مطالبة [ ص: 280 ] الكفيل كان المكفول عليه مليئا ، أو معدما ، وزعم أن ذلك يرد قول من قال : إن المكفول ليس له مطالبة الكفيل إذا قدر على مطالبة المكفول عنه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح المسألة المحرمة بنفس الكفالة ولم يعتبر حال المحتمل عنه .

                                                                                                                        32805 - وفي هذا الحديث أيضا دليل على جواز الحمالة بالمال المجهول ; لأن فيه تحملت حمالة ولم يذكر لها قدرا ، ولا مبلغا .

                                                                                                                        32806 - وممن أجاز الكفالة بالمجهول من المال : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

                                                                                                                        32807 - وقال ابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تصح الكفالة بالمجهول ; لأنها مخاطرة .

                                                                                                                        32808 - وفي هذا الباب أيضا حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، أن رجلا مات ، وعليه دين ، فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال أبو اليسر : هو علي ، فصلى النبي عليه السلام ، فجاءه من الغد يتقاضاه ، فقال : إنما كان ذلك أمس ، ثم أتاه من بعد الغد ، فأعطاه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الآن بردت عليه جلدته .

                                                                                                                        32809 - هكذا رواه شريك ، عن عقيل ، عن جابر .

                                                                                                                        32810 - وقد قال : رواه زائدة ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، [ ص: 281 ] فقال فيه : وقال أبو قتادة : دينه علي يا رسول الله ، وجعل مكان أبي اليسر أبا قتادة .

                                                                                                                        32811 - وهذا الحديث يدل على أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل حتى يقع الأداء ، ويدل على أن للطالب أن يأخذ بماله أيهما شاء ، ويدل على أن من كفل عن إنسان بغير أمره لم يكن له أن يرجع عليه ; لأنه لو كان له الرجوع لقام فيه مقام الطالب صاحب أصل الدين ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، ولا كانت جلدته لتبرد ، والله أعلم .

                                                                                                                        32812 - وأما حديث عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أن رجلا توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وترك عليه دينارين ، وأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه حتى يؤدى عنه ، فتحمل بها أبو قتادة ، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        32813 - وقد روي في حديث عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه أنه قال : أتصلي عليه يا رسول الله إن قضيت عنه ؟ قال : نعم فقضى عنه ، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        32814 - وقد رواه بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن أبي قتادة : قال : سمعت من أهلي من لا أتهم : أن رجلا توفي ، فذكر الحديث .

                                                                                                                        32815 - وأحاديث هذا الباب معلومة عند أهل العلم بالنقل كلها ; للاختلاف في أسانيدها ، وألفاظها وتضعيفهم لبعض ناقليها ، وأحسنها حديث الزهري .

                                                                                                                        [ ص: 282 ] 32816 - وقد اختلف عليه فيه أيضا ، فرواه معمر عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على رجل مات ، وعليه دين ، فأتي بميت ، فقال : أعليه دين ؟ قالوا : نعم ، ديناران ، فقال : صلوا على صاحبكم .

                                                                                                                        32817 - قال أبو قتادة الأنصاري : هما علي يا رسول الله ، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما فتح الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا ، فلورثته .

                                                                                                                        32818 - هكذا رواه عبد الرزاق عن معمر ، ورواه غيره عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة بمثله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يذكر فيه ضمان أبي قتادة ، وذكر سائر الحديث .

                                                                                                                        32819 - ورواه عقيل ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أيضا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصرا ، لم يذكر فيه إلا : أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم إلى آخره لا غير .




                                                                                                                        الخدمات العلمية