الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولا تشترط أيضا " المقارنة " فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز أن يراد به الشفق الأبيض لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده وحينئذ يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصليا لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص . وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض قال : لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر قد غاب ولم يغب فإذا غاب البياض تيقن مغيب الحمرة . فالشفق عنده في الموضعين الحمرة لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض . فهذا مذهبه المتواتر من نصوصه الكثيرة .

                [ ص: 52 ] وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر . وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين : أن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر . وأحمد قد علل الفرق . فلو حكي عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه . وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض . وما أظن هذا إلا غلطا عليه . وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء - وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع - علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه حينئذ لا يجوز التعليل بجواز الجمع .

                الثاني : أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصل إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب - حيث يجوز له الجمع - جاز ذلك وقد نص أيضا على نظير هذا فقال : إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس . وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب الفصل وهو خلاف النص ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 53 ] لما صلى بهم بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية ولا السلف بعده . وهذا قول الجمهور : كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في القصر مبني على فرض المسافر .

                فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة .

                أحدها : أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر .

                والثاني : أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين وهو ظاهر مذهب الشافعي ; فإن كان الجمع في وقت الأولى اشترط الجمع وإن كان في وقت الآخرة فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير . وعلى هذا تشترط الموالاة في وقت الأولى دون الثانية .

                والثالث : تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه في مذهب الشافعي وأحمد ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم وإن كانت وقعت صحيحة ; لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معها فإذا لم يفعل ذلك كان بمنزلة من [ ص: 54 ] أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها مع الإثم .

                والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية ; فإنه ليس لذلك حد في الشرع ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها ; فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب ويريد مع ذلك ألا يطيلها وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحدا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علما وعملا وهو يشغل قلب المصلي عن مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعا للحرج عن الأمة فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة .

                فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا [ ص: 55 ] قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت ولا موقت يعرف ذلك بالآلات الحسابية والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك .

                وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب ; بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت .

                ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه ; بل ولا أصحابه فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين وأولئك قالوا لا يكون [ ص: 56 ] الجمع إلا في وقتين وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل وكلا القولين ضعيف .

                والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة . وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره . وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معا في آخر وقت الأولى وقد يقعان معا في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا ; وكل هذا جائز ; لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية