الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 163 ] باب صلاة الجمعة وقال شيخ الإسلام رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين وغيرهم عامة ولأهل العلم والدين خاصة . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

                أما بعد : فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير وأسأله أن يصلي على خيرته من خلقه : محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه الذي بعثه بالبينات والهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

                [ ص: 164 ] أما بعد : فإن وفدا قدموا من نحو أرضكم . فأخبرونا بنحو مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الاعتصام بالسنة والجماعة والتزام شريعة الله التي شرعها على لسان رسوله ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام ; من سفك بعضهم دماء بعض ونهب أموالهم وقطيعة الأرحام والانسلال عن ربقة الإسلام وتوريث الذكور دون الإناث وإسبال الثياب والتعزي بعزاء الجاهلية . وهو قولهم : يا لبني فلان أو يا لفلان . والتعصب للقبيلة بالباطل وترك ما فرضه الله في النكاح من العدة ونحوها ثم ما زينه الشيطان لفريق منهم من الأهواء التي باينوا بها عقائد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } . ووقعوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقيعة التي لا تصدر ممن وقر الإيمان في قلبه .

                فالحمد لله الذي عافانا وإياكم مما ابتلى به كثيرا من خلقه وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا ونسأل الله العظيم المنان بديع السموات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضاه من القول والعمل ويجعلنا من التابعين بإحسان للسابقين الأولين . [ ص: 165 ] وليس هذا ببدع : فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل { قد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفيهم الأشج - فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى فقالوا : يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام فمرنا بأمر فصل نعمل به ونأمر به من وراءنا : فقال : آمركم بالإيمان بالله : أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم } ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك { وقال للأشج : إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناة قال : خلقين تخلقت بهما أو خلقين جبلت عليهما ؟ قال خلقين جبلت عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله } .

                ثم إنهم أقاموا الجمعة بأرضهم فأول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بجواثى قرية من قرى البحرين .

                ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي - الرجل الصالح - أهل الردة ولهم في السيرة أخبار حسان . [ ص: 166 ] فالله سبحانه وتعالى يوفق آخرهم لما وفق له أولهم إنه ولي ذلك والقادر عليه .

                وقد حدثنا بعض الوفد أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة فسألناه عن صفة المكان فقال هنالك مسجد مبني بمدر وحوله أقوام كثيرون مقيمون مستوطنون لا يظعنون عن المكان : شتاء ولا صيفا إلا أن يخرجهم أحد بقهر بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان كاستيطان سائر أهل القرى لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر إنما هي مبنية بجريد النخل ونحوه .

                فاعلموا - رحمكم الله - أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا تقام فيه الجمعة إذ كان مبنيا بما جرت به عادتهم : من مدر وخشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك . فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر ويتنقلون في البقاع وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب جمهور العلماء .

                [ ص: 167 ] وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة حيث قال : لا تقام الجمعة في القرى بالحديث المأثور عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها جواثى من قرى البحرين " وبأن أبا هريرة - رضي الله عنه - وكان عامل عمر رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر : أقيموا الجمعة حيث كنتم .

                ولعل الذين قالوا لكم : إن الجمعة لا تقام قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام في القرى أو اعتقدوا أن معنى قول الفقهاء في الكتب المختصرة " إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلا أو متقاربا بحيث يشمله اسم واحد فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن وهذا غلط منهم بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين من أي شيء كان : قصب أو خشب ونحوه .

                ولهذا فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد وبين المقيمين بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة بخلاف المستوطنين وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتا من قصب { والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل حتى كان يكف المسجد [ ص: 168 ] إذا نزل المطر . قالوا : يا رسول الله : لو بنينا لك - يعنون بناء مشيدا - فقال : بل عريش كعريش موسى } " .

                وقد نص على مسألتكم بعينها - وهي البيوت المصنوعة من جريد أو سعف - غير واحد من العلماء منهم أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن الآمدي وابن عقيل وغيرهم . فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف فإنه تقام عندهم الجمعة وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي رضي الله عنهم من الخراسانيين : كصاحب " الوسيط " فيما أظن ومن العراقيين أيضا أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة .

                وخالف هؤلاء الماوردي في الحاوي فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة . وهذا الفرق ضعيف مخالف لما عليه الجمهور والقياس ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة . فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب أن جمعوا حيثما كنتم . وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا .

                وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمر بالمياه التي [ ص: 169 ] بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل فلا ينكر عليهم . فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد ولم يشترط بناء مخصوصا وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع ومعلوم أنها لم تكن من مدر وإنما هي إما من جريد أو سعف .

                وقال الإمام أحمد : ليس على البادية جمعة لأنهم ينتقلون . فعلل سقوطها بالانتقال فكل من كان مستوطنا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين : أحدهما : أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه وإن استوطن فرق منهم مكانا فهم في مظنة الانتقال عنه بخلاف هؤلاء المستوطنين الذين يحترثون ويزدرعون ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر . إما لحاجة تعرض أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين .

                الثاني : أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا فصارت من المنقول لا من العقار بخلاف الخشب والقصب والجريد فإن أصحابها لا ينقلونها ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه وإنما يبنون [ ص: 170 ] في كل مكان بما هو قريب منه مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة وهذه المسألة " إقامة الجمعة بالقرى " أول ما ابتدأت من ناحيتكم فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم فإن الله يجمع لكم جوامع الخير .

                ثم اعلموا - رحمكم الله وجمع لنا ولكم خير الدنيا والآخرة - أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان قد بعث إلى ذوي أهواء متفرقة وقلوب متشتتة وآراء متباينة فجمع به الشمل وألف به بين القلوب وعصم به من كيد الشيطان .

                ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن هذا الأصل - وهو الجماعة - عماد لدينه . فقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة .

                فانظروا - رحمكم الله كيف دعا الله إلى الجماعة ونهى عن الفرقة وقال في الآية الأخرى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فبرأ نبيه صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا . كما نهانا عن التفرق والاختلاف بقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } .

                وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق . فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال { : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض } قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فما أغبط نفسي كما غبطتها ألا أكون في ذلك المجلس روى هذا الحديث أبو داود في سننه وغيره وأصله في الصحيحين والحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال صلى الله عليه وسلم { تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة [ ص: 172 ] كلهم في النار إلا واحدة قيل : يا رسول الله ومن هي ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } " وفي رواية " هي الجماعة " وفي رواية " { يد الله على الجماعة } فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة .

                وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين . نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع .

                فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وقالت : " من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية " وجمهور الأمة على قول ابن عباس مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لما قيل لها : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 173 ] { ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } " فقالت : إنما قال : إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق . ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام } صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأحاديث . وأم المؤمنين تأولت والله يرضى عنها . وكذلك معاوية نقل عنه في أمر المعراج أنه قال : إنما كان بروحه والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه ومثل هذا كثير .

                وأما الاختلاف في " الأحكام " فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة : { لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم : لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر . وقال قوم : لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين } . أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر . وهذا وإن كان في الأحكام فما لم [ ص: 174 ] يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام .

                وقد قال صلى الله عليه وسلم { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين } رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه .

                وصح عنه أنه قال : { لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام .

                } نعم صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - لما تخلفوا عن غزوة تبوك وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة إلى أن نزلت توبتهم من السماء . وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول وتبين صدقه في التوبة فأمر المسلمين بمراجعته . فبهذا ونحوه رأى [ ص: 175 ] المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظهرين للكبائر فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعي إلى البدعة ; إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا .

                وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون .

                ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة : كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة ولا يجالسونه بخلاف الساكت وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع .

                والذي أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا : أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . والله هو المسئول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم ويصلح ذات بيننا ويهدينا سبل السلام ويخرجنا [ ص: 176 ] من الظلمات إلى النور ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا ويجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها عليه قابليها ويتممها علينا .

                وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في " مسألة رؤية الكفار ربهم " وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر في ذلك خفيف [ ثم ذكر الجواب . وتقدم في " كتاب الأسماء والصفات " . ] [ ص: 177 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية