الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم ) معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط ; لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ، ولهذا لو طلقها يعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله [ ص: 299 ] ( فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان رجم ) خلافا لزفر والشافعي ; فالشافعي مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال ، وزفر يقول إنه شرط في معنى العلة ; لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء ، فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا لا تقبل لما ذكرنا . ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة ، وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة ، [ ص: 300 ] بخلاف ما ذكر ; لأن العتق يثبت بشهادتهما ، وإنما لا يثبت سبق التاريخ ; لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم ( فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون ) عندنا خلافا لزفر وهو فرع ما تقدم .

التالي السابق


( قوله : وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم ) قال المصنف : ( معناه أنه ينكر الدخول بها بعد وجود سائر الشرائط ) أي شرائط الإحصان ( لأن الحكم ) شرعا ( بثبوت النسب منه حكم بالدخول ) أي يستلزم ذلك ( ولذا لو طلقها ) طلقة ( يعقب الرجعة ) ولو كانت غير مدخول بها بانت بالواحدة الصريحة ، والفرض أنهما مقران بالولد ، ولو ثبت الدخول بشهادة شاهدين ثبت الإحصان ، فإذا ثبت بشهادة الشرع وبإقرارهما أولى ، وعلى كون المعنى ما ذكر المصنف من أن الفرض وجود سائر شرائط الإحصان يدخل فيه أن بينهما نكاحا صحيحا ، فما عن الأئمة الشافعي ومالك وأحمد من أنه لا يثبت بذلك [ ص: 299 ] لاحتمال كونه من دخول لا على وجه الصحة ليس بخلاف ; لأن بفرض أنها امرأته لا يكون من وطء شبهة الغير المنكوحة ولا من نكاح فاسد لأن النكاح الفاسد لا يستمر ظاهرا مولدا على وجه الديمة والاستقرار كما يفيده قوله وله امرأة .

( قوله فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه إلخ ) المقصود من هذه أن الإحصان يثبت بشهادة النساء مع الرجال خلافا لزفر والشافعي ومالك وأحمد ، إلا أن المبني مختلف ، فعندهم شهادتهن في غير الأموال لا تقبل .

وعند زفر إن قبلت إلا أنه يقول : الإحصان شرط في معنى العلة ، والشأن إثبات أنه في معنى العلة ونفيه لأنه المدار فقال : لأن تغليظ العقوبة يثبت عنده ، بخلاف الشرط المحض ( فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء وصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم ) وهو محصن ( أنه أعتقه قبل زناه لا تقبل ) مع أن شهادة أهل الذمة على الذمي بالعتق مقبولة في غير هذه الحالة ( لما ذكرنا ) من أنه شرط في معنى العلة فصار كشهادتهم على زناه إذ كان المقصود تكميل العقوبة ، ولزم من أصله هذا وهو أنه شرط في معنى العلة أنه إذا رجع شهود الإحصان يضمنون عنده وعندنا لا يضمنون إذ كان علامة محضة ( ولنا ) في نفي أنه في معنى العلة ( أن الإحصان ) ليس إلا ( عبارة عن خصال حميدة ) بعضها غير داخل تحت قدرته كالحرية والعقل وبعضها فرض عليه كالإسلام وبعضها مندوب إليه كالنكاح الصحيح والدخول فيه ، فلا يتصور كونها سببا للعقوبة ولا سببا لسببه فإن سببها المعصية .

والإحصان بحسب الوضع مانع من سبب للعقوبة لأنه سبب لضد سببها وهو الطاعة والشكر فيستحيل أن تكون في معنى علة الحكم وهو مانع لسببه ، فالسبب ليس إلا الزنا إلا أنه مختلف الحكم ففي حال الإحصان حكمه الرجم وفي غيره الجلد ، فكان الإحصان السابق على الزنا معرفا لخصوص الحكم الثابت بالزنا أعني خصوص العقوبة ، والعلامة المحضة قط لا يكون لها تأثير فلا تكون علة ولا في معناها فكيف يضاف الحكم إليها وظهر أن الواقع أن الإحصان يثبت معه بالزنا عقوبة غليظة ، وبالشهادة يظهر ما ثبت بالزنا عند الحاكم ، فلما [ ص: 300 ] لم يكن سببا للعقوبة ولا علة جاز أن يدخل في إثباته شهادة النساء ، كما لو شهدتا مع الرجل بالنكاح في غير هذه الحالة والدخول في غرض آخر كتكميل المهر حتى يثبت إحصانه ، ثم اتفق أنه شهد عليه بالزنا أليس أنه يرجم كذا إذا شهدتا بعد ظهور الزنا به ، فكما يثبت قبله لعدم كونه سببا كذا بعده ، وصار كما لو علق عتق عبده بظهور دين لفلان عليه فشهد اثنان بالدين عتق العبد ، ولا يضاف العتق إلى الشهادة بالدين بل إلى المعلق ، كذا هنا لا يضاف الرجم بعد الشهادة بالإحصان إلى هذه الشهادة بل إلى الزنا ( بخلاف ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادة الذميين ) على الذمي بشهادتهما عليه بالإعتاق ( وإنما لا يعتق بسبق التاريخ لأنه ينكره ) العبد ( المسلم أو يتضرر به ) فلا تنفذ شهادتهما عليه لأنه تتغلظ العقوبة عليه فتصير مائة بعد أن كانت خمسين .

واستشكل كونه ليس في معنى العلة للحد بأنه لو أقر بالإحصان ثم رجع عنه صح رجوعه كالزنا ولذا تقبل بينة الإحصان حسبة بلا دعوى ، فيجب أن يشترط في الشهادة به الذكورة كالتزكية عند أبي حنيفة .

أجيب بأن صحة الرجوع لا تتوقف على كون المقر به علة للعقوبة بل على كون المقر به لا مكذب له فيه إذا رجع عنه ولا مكذب له في سبب الحد ، بخلاف الإقرار بالدين فإن المقر له يكذبه في رجوعه ، وإنما صحت الحسبة فيه لأنه من إظهار حق الله تعالى ، والمانع من شهادة النساء ليس هذا القدر بل كونه سببا لأصل العقوبة ، فحين ثبتت العقوبة بشهادة الرجال بسببها كان كالشهادة على عتق الأمة تسمع بلا دعوى عند أبي حنيفة لتضمنه تحريم الفرج .



[ فروع من المبسوط ] شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان ، فشهد رجلان أنه تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها يثبت الإحصان فيرجم . وعند محمد لا يثبت فلا يرجم ، كما لو شهد أنه أقر بها أو أتاها فهذا ليس بصريح ، وهذا لأن الدخول يراد به الجماع ويراد به الخلوة ولا يثبت الإحصان بالشك .

ولهما أن الدخول يراد به الجماع عرفا مستمرا حتى صار يتبادر مع النكاح والتزويج والنساء ، قال الله تعالى { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فلا إجمال فيه عرفا فكانت كشهادتهم على الجماع . ولو شهد أربعة على الزنا بفلانة وأربعة غيرهم شهدوا به بامرأة أخرى فرجم فرجع الفريقان ضمنوا ديته إجماعا ، وحدوا للقذف عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد لا يحدون لأن رجوع كل فريق معتبر في حقهم لا في حق غيرهم فصار في حق كل فريق كأن الفريق الآخر ثابت على الشهادة ، ولهما أن كل فريق أقر على نفسه بالتزام حد القذف لأن كل فريق يقول : إنه عفيف قتل ظلما وأنهم قذفة بغير حق . ولو شهد أربعة على رجل بالزنا فأقر مرة بعد حد عند محمد لأن البينة وقعت معتبرة فلا تبطل إلا بإقرار معتبر والإقرار مرة هنا كالعدم . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يحد ، وهو [ ص: 301 ] الأصح لأن شرط قبول البينة إنكار الخصم وهو مقر ولا حكم لإقراره فبطل الحد ولأن الإقرار ، وإن فسد حكما فصورته قائمة فيورث شبهة .




الخدمات العلمية