الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان حكم الملك والحق الثابت في المحل فنقول وبالله التوفيق حكم الملك ولاية التصرف للمالك في [ ص: 264 ] المملوك باختياره ليس لأحد ولاية الجبر عليه إلا لضرورة ولا لأحد ولاية المنع عنه وإن كان يتضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير فيمنع عن التصرف من غير رضا صاحب الحق وغير المالك لا يكون له التصرف في ملكه من غير إذنه ورضاه إلا لضرورة وكذلك حكم الحق الثابت في المحل عرف هذا فنقول للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفا يتعدى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى فله أن يبني في ملكه مرحاضا أو حماما أو رحى أو تنورا وله أن يقعد في بنائه حدادا أو قصارا وله أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو ديماسا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره .

                                                                                                                                وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه ; لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل والمنع منه لعارض تعلق حق الغير فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجب للحديث قال عليه الصلاة والسلام { المؤمن من أمن جاره بوائقه } ولو فعل شيئا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن ; لأنه لا صنع منه في ملك الغير وعلى هذاسفل لرجل وعليه علو لغيره انهدما لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل ; لأنه ملكه والإنسان لا يجبر على عمارة ملك نفسه ولكن يقال لصاحب العلو إن شئت فابن السفل من مال نفسك وضع عليه علوك ثم امنع صاحب السفل عن الانتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء مبنيا ; لأن البناء .

                                                                                                                                وإن كان تصرفا في ملك الغير لكن فيه ضرورة ; لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف في ملك غيره فصار مطلقا له شرعا وله حق الرجوع بقيمة البناء مبنيا ; لأن البناء ملكه لحصوله بإذن الشرع وإطلاقه فله أن لا يمكنه من الانتفاع بملكه إلا ببدل يعدله وهو القيمة وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن في ظاهر الرواية يرجع بما أنفقه وكذا ذكر الخصاف أنه يرجع بما أنفق ; لأنه لما لم يقدر على الانتفاع بالعلو إلا ببناء السفل ولا ضرر لصاحب السفل في بنائه بل فيه نفع صار مأذونا بالإنفاق من قبله دلالة فكان له حق الرجوع بما أنفق وهذا بخلاف البئر المشترك والدولاب المشترك والحمام المشترك ونحو ذلك إذا خربت فامتنع أحدهما عن العمارة أنه يجبر الآخر على العمارة ; لأن هناك ضرورة ; لأنه لا يمكن الانتفاع به بواسطة القسمة ; لأنه لا يحتمل القسمة والترك لذلك تعطيل الملك وفيه ضرر بهما فكان الذي أبى العمارة متعنتا محضا في الامتناع فيدفع تعنته بالجبر على العمارة هذا إذا انهدما بأنفسهما فأما إذا هدم صاحب السفل سفله حتى انهدم العلو يجبر على إعادته ; لأنه أتلف حق صاحب العلو بإتلاف محله ويمكن جبره بالإعادة فتجب عليه إعادته .

                                                                                                                                وعلى هذا حائط بين دارين انهدم ولهما عليه جذوع لم يجبر واحد منهما على بنائه لما قلنا ولكن إذا أبى أحدهما البناء يقال للآخر إن شئت فابن من مال نفسك وضع خشبك عليه وامنع صاحبك من الوضع حتى يرد عليك نصف قيمة البناء مبنيا أو نصف ما أنفقته على حسب ما ذكرنا في السفل والعلو وقيل إنما يرجع إذا لم يكن موضع الحائط عريضا ولا يمكن كل واحد منهما أن يبني حائطا على حدة في نصبه بعد القسمة ( فأما ) إذا كان عريضا يمكن قسمته وأن يبني كل واحد منهما في نصيبه حائطا يصلح لوضع الجذوع عليه فبناه كما كان بغير إذن صاحبه لا يكون له حق الرجوع على صاحبه بل يكون متبرعا ; لأنه يبني ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة فكان متبرعا فلا يرجع عليه بشيء ولو أراد أحدهما قسمة عرضة الحائط لم تقسم إلا عن تراض منهما بالقسمة ; لأن لكل واحد منهما عليه حق وضع الخشب وفي القسمة جبرا إبطال حق الآخر من غير رضاه وهذا لا يجوز ويحتمل أن يقال هذا إذا لم يكن عريضا فإن كان يقسم قسمة جبر ; لأنه لا يتضمن إبطال حق الغير ولو كانت الجذوع عليه لأحدهما فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر فإن كان الطالب صاحب الجذوع يجبر الآخر على القسمة ; لأنه في الانتفاع متعنت وإنما الحق لصاحب الجذوع وقد رضي بسقوط حقه وإن كان الطالب من لا جذع له لا يجبر صاحب الجذوع على القسمة ; لأن فيه إبطال حقه في وضع الجذوع فلا يجوز من غير رضاه .

                                                                                                                                ولو هدم الحائط أحدهما يجبر على إعادته لما ذكرنا أنه أتلف محل حق أحدهما فيجب جبره على الإعادة وعلى هذا سفل لرجل وعليه علو لغيره فأراد صاحب السفل أن يفتح بابا أو يثبت كوة أو يحفر طاقا أو يقد وتدا على الحائط أو يتصرف فيه تصرفا لم يكن قبل ذلك ليس له ذلك من غير رضا صاحب العلو سواء أضر ذلك بالعلو [ ص: 265 ] بأن أوجب وهن الحائط أو لم يضر به عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما له ذلك إن لم يضر بالعلو ولو أراد صاحب السفل أن يحفر في سفله بئرا أو بالوعة أو سردابا فله ذلك من غير رضا صاحب العلو إجماعا وكذا إيقاد النار للطبخ أو للخبز وصب الماء للغسل أو للوضوء بالاتفاق وعلى هذا الاختلاف لو أراد صاحب العلو أن يحدث على علوه بناء أو يضع جذوعا لم يكن قبل ذلك أو يشرع فيه بابا أو كنيفا لم يكن قبله ليس له ذلك عند أبي حنيفة سواء أضر بالسفل أو لا وعندهما له أن يفعل ذلك ما لم يضر بالسفل وله إيقاد النار وصب الماء للوضوء والغسل إجماعا منهم من قال لا خلاف بينهم في الحقيقة وقولهما تفسير قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من حقق الخلاف .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع إلا لحق الغير وحق الغير لا يمنع من التصرف لعينه بل لما يتضرر به صاحب الحق ألا ترى أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال بجدار غيره ومن الاصطلاء بنار غيره لانعدام تضرر المالك والخلاف هنا في تصرف لا يضر بصاحب العلو فلا يمنع عنه ولأبي حنيفة رحمه الله أن حرمة التصرف في ملك الغير وحقه لا يقف على الضرر بل هو حرام سواء تضرر به أم لا ألا ترى أن نقل المرآة والمبحار من دار المالك إلى موضع آخر حرام وإن كان لا يتضرر به المالك والدليل عليه أنه يباح التصرف في ملك الغير وحقه برضاه ولو كانت الحرمة لما يلحقه من الضرر لما أبيح ; لأن الضرر لا ينعدم برضا المالك وصاحب الحق دل أن التصرف في ملك الغير وحقه حرام أضر بالمالك أو لا وهنا حق لصاحب العلو متعلق بالسفل فيحرم التصرف فيه إلا بإذنه ورضاه بخلاف ما ضربنا من المثال وهو الاستظلال بجدار غيره والاصطلاء بنار غيره ; لأن ذلك ليس تصرفا في ملك الغير وحقه إذ لا أثر لذلك متصل بملك الغير وحقه وهنا بخلافه وعلى هذا إذا كان مسيل ماء في قناة فأراد صاحب القناة أن يجعله ميزابا أو كان ميزابا فأراد أن يجعله قناة ليس له ذلك وكذلك لو أراد أن يجعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض أو أراد أن يسيل ماء سطح آخر في ذلك الميزاب لم يكن له ذلك ; لأن صاحب الحق لا يملك التصرف زيادة على حقه وكذلك لو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسدوا مسيله أو أرادوا أن ينقلوا الميزاب عن موضعه أو يرفعوه أو يسفلوه لم يكن لهم ذلك ; لأن ذلك تصرف في حق الغير بالإبطال والتغيير فلا يجوز من غير رضا صاحب الحق ولو بنى أصل الدار لتسييل ميزابه على ظهره فلهم ذلك ; لأن مقصود صاحب الميزاب حاصل في الحالين .

                                                                                                                                دار لرجل فيها طريق فأراد أهل الدار أن يبنوا في ساحة الدار ما يقطع طريقه ليس لهم ذلك ; لأن فيه إبطال حق المرور وينبغي أن يتركوا في ساحة الدار عرض باب الدار ; لأن عرض الطريق مقدر بعرض باب الدار ولو أراد رجل أن يشرع إلى الطريق جناحا أو ميزابا فنقول هذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما إن كانت السكة نافذة وإما إن كانت غير نافذة فإن كانت نافذة فإنه ينظر إن كان ذلك مما يضر بالمارين فلا يحل له أن يفعل ذلك في دينه لقوله عليه الصلاة والسلام { لا ضرر ولا إضرار في الإسلام } ولو فعل ذلك فلكل واحد أن يقلع عليه ذلك وإن كان ذلك مما لا يضر بالمارين حل له الانتفاع به ما لم يتقدم إليه أحد بالرفع والنقض فإذا تقدم إليه واحد من عرض الناس لا يحل له الانتفاع به بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحل له الانتفاع قبل التقدم وبعده وكذلك هذا الحكم في غرس الأشجار وبناء الدكاكين والجلوس للبيع والشراء على قارعة الطريق ( وجه ) قولهما ما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير ليس لعينه بل للتحرز عن الضرر ولا ضرار بالمارة فاستوى فيه حال ما قبل التقدم وبعده ولأبي حنيفة رحمه الله أن إشراع الجناح والميزاب إلى طريق العامة تصرف في حقهم ; لأن هواء البقعة في حكم البقعة والبقعة حقهم فكذا هواؤها فكان الانتفاع بذلك تصرفا في حق الغير وقد مر أن التصرف في حق الغير بغير إذنه حرام سواء أضر به أو لا إلا أنه حل له الانتفاع بذلك قبل التقدم لوجود الإذن منهم دلالة وهي ترك التقدم بالنقض والتصرف في حق الإنسان بإذنه مباح فإذا وقعت المطالبة بصريح النقض بطلت الدلالة فبقي الانتفاع بالمبنى تصرفا في حق مشترك بين الكل من غير إذنهم ورضاهم فلا يحل هذا إذا كانت السكة نافذة فأما إذا كانت غير نافذة فإن كان له حق في التقديم فليس لأهل السكة حق المنع لتصرفه في حق نفسه وإن لم [ ص: 266 ] يكن له حق في التقديم فلهم منعه سواء كان لهم في ذلك مضرة أو لا لما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير لا تقف على المضرة والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية