الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 316 ] ( باب حد القذف ) .

( وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا [ ص: 317 ] وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا ) لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات } إلى أن قال { فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية ، والمراد ا لرمي بالزنا بالإجماع ، وفي النص إشارة إليه وهو اشتراط أربعة من الشهداء إذ هو مختص بالزنا ، ويشترط مطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار وإحصان المقذوف لما تلونا [ ص: 318 ] قال ( ويفرق على أعضائه ) لما مر في حد الزنا ( ولا يجرد من ثيابه ) لأن سببه غير مقطوع فلا يقام على الشدة ، بخلاف حد الزنا ( غير أنه ينزع [ ص: 319 ] عنه الفرو والحشو ) لأن ذلك يمنع إيصال الألم به ( وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا لمكان الرق . والإحصان أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا ) أما الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان ، قال الله تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } أي الحرائر ، والعقل والبلوغ لأن العار لا يلحق بالصبي والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما ، والإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام { من أشرك بالله فليس بمحصن } والعفة لأن غير العفيف لا يلحقه العار ، وكذا القاذف صادق فيه .

التالي السابق


( باب حد القذف )

تقدم وجه المناسبة بينه وبين ما قبله وما بعده . والقذف لغة الرمي بالشيء . وفي الشرع : رمي بالزنا ، وهو من الكبائر بإجماع الأمة . قال الله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وقال عليه الصلاة والسلام { اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال الشرك بالله ، والسحر . وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم . والتولي يوم الزحف . وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } متفق عليه . وعنه عليه الصلاة والسلام { من أقام الصلوات الخمس واجتنب السبع الكبائر نودي يوم القيامة ليدخل من أي أبواب الجنة شاء } وذكر منها قذف المحصنات . وتعلق الحد به بالإجماع مستندين إلى قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ( والمراد الرمي بالزنا ) حتى لو رماه بسائر المعاصي غيره لا يجب الحد بل التعزير ( وفي النص إشارة إليه ) أي إلى أن المراد الرمي بالزنا ( وهو اشتراط أربعة من الشهود ) يشهدون عليها بما رماها به ليظهر به صدقه فيما رماها به ، ولا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا ، ثم ثبت وجوب جلد القاذف للمحصن بدلالة هذا النص بالقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد .

( قوله وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا ) بأن قال زنيت أو يا زاني [ ص: 317 ] وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان ) القاذف ( حرا ) وإن كان عبدا حد أربعين سوطا . شرط الإحصان في المقذوف وهو أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا . وعن داود عدم اشتراط الحرية ، وأنه يحد قاذف العبد . وعن أحمد لا يشترط البلوغ بل كون المقذوف بحيث يجامع وإن كان صبيا وهي خلاف المصحح عنه .

وعن سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم ، والمعول عليه قول الجمهور وسيأتي الوجه عليه . وقوله ( بصريح الزنا ) يحترز عن القذف بالكناية كقائل صدقت لمن قال يا زاني ، بخلاف ما لو قال هو كما قلت فإنه يحد . ولو قال أشهد أنك زان فقال الآخر وأنا أشهد لا حد على الثاني لأن كلامه محتمل . ولو قال وأنا أشهد بمثل ما شهدت به حد . ويحد بقوله زنى فرجك وبقوله زنيت ثم قال بعدما قطع كلامه وأنت مكرهة بخلافه موصولا .

وكذا إذا قال ليست أمي بزانية أو أبي فإنه لا يحد . وبه قال الشافعي وأحمد وسفيان وابن شبرمة والحسن بن صالح . وقال مالك : وهو رواية عن أحمد يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر قال : كان عمر يضرب الحد في التعريض . وعن علي أنه جلد رجلا بالتعريض ، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح .

قلنا لم يعتبر الشارع مثله ، فإنا رأيناه حرم صريح خطبة المتوفى عنها في العدة وأباح التعريض فقال { ولكن لا تواعدوهن سرا } وقال { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } فإذا ثبت من الشرع نفي اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه .

وأما [ ص: 318 ] الاستدلال بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم الحد للذي قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفيه فغير لازم ، لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع . وقد أورد أن الحد يثبت بنفي النسب وليس صريحا في القذف ، ووروده باعتبار المفهوم وهو حجة في الروايات . وأجيب بأنه يثبت بالنسبة إلى الزنا بالاقتضاء والثابت مقتضي كالثابت بالعبارة . والحق أن لا دلالة اقتضاء في ذلك لما سيذكر بل حده بالأثر والإجماع فهو وارد لا يندفع . ولا فرق في ثبوت القذف بعد أن يكون بصريح الزنا بين أن يكون بالعربي أو النبطي أو الفارسي أو غير ذلك ، فلا يحد لو قال لها زنيت بحمار أو بعير أو ثور لأن الزنا إدخال رجل ذكره إلخ ، بخلاف ما لو قال لها زنيت بناقة أو أتان أو ثوب أو دراهم حيث يحد لأن معناه زنيت وأخذت البدل إذ لا تصلح المذكورات للإدخال في فرجها . ولو قال هذا لرجل لا يحد لأنه ليس العرف في جانبه أخذ المال . ولو قال زنيت وأنت صغيرة أو جامعك فلان جماعا حراما لا يحد لعدم الإثم ولعدم الصراحة ، إذ الجماع الحرام يكون بنكاح فاسد ، وكذا لا يحد في قوله يا حرام زاده لأنه ليس كل حرام زنا ، ولا بقوله أشهدني رجل أنك زان لأنه حاك لقذف غيره ، ولا بقوله أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس أو أزنى الزناة ، لأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال أنت أعلم به ، وسيأتي خلافه في فروع نذكرها .

وأما اشتراط مطالبة المقذوف فإجماع إذا كان حيا ، فإن كان ميتا فمطالبة من يقع القدح في نسبه ثم إن نفيه عن غير المقذوف بمفهوم الصفة وهو معتبر ، وأورد ينبغي أن لا تشترط المطالبة لأن المغلب فيه حق الله تعالى . فالجواب أن حق العبد مطلقا يتوقف النظر فيه على الدعوى وإن كان مغلوبا . نعم يرد على ظاهر العبارة قذف نحو الرتقاء والمجبوب فإنه لا يحد فيه مع صدق القذف للمحصنة بصريح الزنا ، وكذا الأخرس لاحتمال أن يصدقه لو نطق . وفي الأولين كذبه ثابت بيقين فانتفى إلحاق الشين إلا بنفسه . ولو قال لرجل يا زانية لا يحد استحسانا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد والشافعي يحد لأنه قذفه على المبالغة ، فإن التاء تزاد له كما في علامة ونسابة . ولهما أنه رماه بما يستحيل منه فلا يحد كما لو قذف مجبوبا ، وكذا لو قال أنت محل للزنا لا يحد ، وكون التاء للمبالغة مجاز لما عهد لها من التأنيث ، ولو كان حقيقة فالحد لا يجب بالشك ، ولو قال لامرأة يا زان حد عندهم لأن الترخيم شائع ( ويفرق ) الضرب ( على أعضائه لما مر في حد الزنا ) .

( قوله ولا يجرد من ثيابه ) إلا في قول مالك ( لأن سببه ) وهو النسبة إلى الزنا كذبا ( غير مقطوع به ) لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان ، بخلاف حد الزنا لأن سببه معاين للشهود أو للمقر به ، والمعلوم لهما هنا نفس القذف ، وإيجابه الحد ليس بذاته بل باعتبار كونه كاذبا حقيقة أو حكما بعدم إقامة البينة ، قال تعالى { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } فالحاصل أنه تعالى منع من النسبة إلى الزنا إلا عند القدرة على الإثبات بالشهداء لأن فائدة النسبة هناك تحصل ، أما عند العجز فإنما هو تشنيع ولقلقة تقابل بمثلها بلا فائدة ( بخلاف حد الزنا غير أنه ينزع [ ص: 319 ] عنه الفرو والحشو ) أي الثوب المحشو لأنه يمنع من وصول الألم إليه ، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع ، والظاهر أنه إن كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا منه ويمنع إيصال الألم الذي يصلح زاجرا .

( قوله والإحصان أن يكون المقذوف حرا إلخ ) قدمنا ذلك ، والكلام هنا في إثبات ذلك ، ويثبت الإحصان بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر وتقدمت ، فإن أنكر القاذف الإحصان وعجز المقذوف عن البينة لا يحلف ما يعلم أنها محصنة ، وكذا إذا أنكر الحرية ليحد حد الأرقاء القول قوله ، ولا يحد كالأحرار إلا أن يقيم المقذوف بينة أنه حر ، ولو كان القاضي يعلم حريته حده ثمانين ، وهذا قضاء يعلمه فيما ليس سببا للحد فيجوز ( أما اشتراط الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان ، قال تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } أي الحرائر ) فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى ، وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره يوجب كونه محصنا من وجه دون وجه ، وذلك شبهة في إحصانه توجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي أطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كونها زوجة أو كون المقذوف زوجا ، فإنه جاء بمعناه وهو قوله تعالى { والمحصنات من النساء } أي المتزوجات ، ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم ، ولا شك أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما ذكرنا ، وبمعنى الإسلام في قوله تعالى { فإذا أحصن } قال ابن مسعود أسلمن ، وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان ، والمصنف ذكر فيه ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام { من أشرك بالله فليس بمحصن } وتقدم الكلام عليه وبمعنى العفة عن فعل الزنا ، قال تعالى { والذين يرمون المحصنات } والمراد بهن العفائف ، وأما العقل والبلوغ ففيه إجماع ، إلا ما عن أحمد أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه [ ص: 320 ] والأصح عنه كقول الناس وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة ، فإن الحد بعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه .

والعامة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما عار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من القائل لصبي أو مجنون يا زاني ، إما لعدم صحة قصده . وإما لعدم خطابهما بالحرمات . ولو فرض لحوق عار لمراهق فليس إلحاقا على الكمال فيندرئ . وهذا أولى من تعليل المصنف بعدم تحقق فعل الزنا منهما لأنه مؤول بأن المراد بالزنا المؤثم ، وإلا فهو يتحقق منهما إذ يتحقق منهما الوطء في غير الملك ، لكن القذف إنما يوجب الحد إذا كان بزنا يؤثم صاحبه ، وبه يندفع الإيراد القائل إذا لم يتحقق الزنا منهما فينبغي أن يحد قاذف مجنون زنى حالة جنونه لكن لا يحد وإن كان قذفه حين إفاقته . وأما اشتراط العفة فلأن غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزنا لأن تحصيل الحاصل محال . ولو لحقه عار آخر فهو صدق . وحد القذف للفرية لا للصدق . وفي شرح الطحاوي في العفة قال : لم يكن وطئ امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره . فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد سقطت عدالته ولا حد على قاذفه . وكذا لو وطئ في غير الملك أو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته ، ولو وطئها في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطئ امرأته في الحيض أو أمته المجوسية لا يسقط إحصانه ، وإن كانت مؤبدة سقط إحصانه كما إذا وطئ أمته وهي أخته من الرضاع . ولو مس امرأة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة ، وعندهما يسقط . ولو وطئ امرأة بالنكاح ثم تزوج بنتها ودخل بها سقط إحصانه انتهى لفظه . وإنما لم يسقط إحصانه عند أبي حنيفة في بنت الممسوسة بشهوة لأن كثيرا من الفقهاء يصححون نكاحها




الخدمات العلمية