الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: "وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب، ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه، فإنهم يجوزون [ ص: 159 ] تجدد الإضافات على ذاته، مع أن الإضافة عندهم عرض وجودي، وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث، وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة".

قلت: أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة: ما يجده في كتب أبي الحسين البصري، وصاحبه محمود الخوارزمي، وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم، وفي كلام الفلاسفة: ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما، وفي مذهب الأشعري: يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه، وبعض كتب القاضي أبي بكر وأمثاله، وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله. وأما كتب القدماء كأبي الحسن الأشعري وأبي محمد بن كلاب وأمثالهما، وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم، فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها، وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين، وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو، وقول كثير منهم، كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم، فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو؟ قالوا: قال سقراط وأفلاطون وأرسطو: إن الباري لا يعبر [ ص: 160 ] عنه إلا بهو فقط، وهو الهوية المحضة غير المتكثرة، وهي الحكمة المحضة والحق المحض، وليست لله صورة مثل الصورة التي تكثرت في العنصر، وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل، ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولا الإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود، ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنه، لكن بأنه واحد أزلي ليس باثنين، لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية، وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد، وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود، وجعلناه متناهيا إلى غيره، وقال تاليس [ ص: 161 ] وبلاطرخس ولوقيوس وكسيفايس وانبذقليس جميعا: إن الباري واحد ساكن، غير أن أنبذقليس قال: إنه متحرك بنوع سكون، كالعقل المتحرك بنوع سكون، فذلك جائز ؛ لأن العقل إذا كان مبدعا فهو متحرك بنوع سكون، فلا محالة أن المبدع متحرك [ ص: 162 ] بسكون، لأنه علة، قالوا: وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون.

وقال زينون وديمقراط وساغوريون: إن الباري [ ص: 163 ] متحرك في الحقيقة، وإن حركته فوق الذهن، فليس زوالا.

قالوا: وقال تاليس - وهو أحد أساطين الحكمة -: إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره، فأما من جهة هويته: فغير مدرك له صفة من نحو ذاته، بل من نحو ذواتنا، وكان يقول: أبدع الله العالم لا لحاجة إليه، بل لفضله، ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن ههنا وجود، وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه.

وقال فيثاغورس نحو قول تاليس: لا يدرك من جهة النفس، هو فوق الصفات العلوية الروحانية، غير مدرك بجوهريته، بل من قبل آثاره في كل عالم، فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم، وهو الواحد الذي إذا رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواته مبدعة مسبوقة مخلوقة. [ ص: 164 ]

قالوا: وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين، غير أنه يجوز لقائل أن يقول: إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات.

التالي السابق


الخدمات العلمية