الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والصوم في السفر أفضل من الفطر إلا إذا لم يطق ولا يفطر يوم يخرج وكان مقيما في أوله ولا يوم يقدم إذا قدم صائما .

التالي السابق


(والصوم في السفر أفضل من الفطر لمن قوي عليه إلا إذا لم يطق ) فالفطر أفضل وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد الفطر للمسافر أفضل وإن لم يجهده وهو قول ابن حبيب من المالكية وقال لأنه آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأجمعوا على أنه إذا صام في السفر فإن صومه صحيح مجزئ وعزا صاحب الهداية من أصحابنا إلى الشافعي بأن الفطر في السفر أفضل وقد رد عليه شراح الكتاب بأن مذهب الشافعي هو أن الصوم أفضل كمذهبنا وإنما يروى أفضلية الفطر عن أحمد كما ذكرنا نبه عليه ابن العماد وغيره (ولا يفطر يوم يخرج) من المدينة (و) قد (كان مقيما في أوله) أي : الشهر ندبا (ولا) يفطر أيضا (يوم يقدم) من السفر إلى المدينة (إذا قدم صائما) رعاية لحرمة الشهر وإذا نوى المقيم الصوم ثم سافر في أثناء يومه لا يباح له الفطر اتفاقا إلا أحمد فإنه أجازه في إحدى روايتيه والمدنيون من أصحاب مالك .



(فصل)

في كتاب الشريعة : في صوم المسافر والمريض شهر رمضان فمن قائل أنهما إن صاماه وقع وأجزأهما ومن قائل أنه لا يجزئهما وإن الواجب عليهما عدة من أيام أخر والذي أذهب إليه أنهما إن صاماه فإن ذلك لا يجزئهما وأن الواجب عليهما عدة من أيام أخر غير أني أفرق بين المريض والمسافر إذا أوقعا الصوم في هذه الحالة في شهر رمضان فأما المريض فيكون الصوم له نفلا وهو عمل بر وليس بواجب عليه ولو أوجبه على نفسه فإنه لا يجب عليه وأما المسافر لا يكون صومه في السفر في شهر رمضان ولا في غيره عمل بر كان كمن لم يعمل شيئا وهو أوفى درجاته .

الاعتبار السالك هو المسافر في المقامات بالأسماء الإلهية فلا يحكم عليه الاسم الإلهي رمضان بالصوم الواجب ولا غير الواجب ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- : "ليس من البر الصيام في السفر " واسم رمضان يطلبه بتنفيذ الحكم فيه إلى انقضاء شهر سلطانه والسفر يحكم عليه بالانتقال الذي هو عدم الثبوت على الحال الواحدة فبطل حكم الاسم الإلهي رمضان في حكم الصائم ومن قال أنه يجزئه جعل سفره في قطع أيام الشهر وجعل الحكم فيه لاسم رمضان فجمع بين السفر والصوم وأما حكم انتقاله المسمى سفرا فإنه ينتقل من صوم إلى فطر ومن فطر إلى صوم وحكم رمضان لا يفارقه ولهذا شرع صيامه وقيامه ثم جواز الوصال فيه أيضا مع انتقاله من ليل إلى نهار ومن نهار إلى ليل وحكم رمضان منسحب عليه فلهذا أجزأ المسافر صوم رمضان وأما المريض فحكمه غير حكم المسافر في الاعتبار فإن أهل الظاهر أجمعوا على أن المريض إن صام رمضان في حال مرضه أجزأ والمسافر ليس كذلك عندهم فضعف استدلالهم بالآية فالاعتبار أن المرض يضاد الصحة والمطلوب من الصوم صحة والضدان لا يجتمعان فلا يصح المرض والصوم واعتبرناه في شهر رمضان دون غيره لأنه واجب بإيجاب الله ابتداء فالذي أوجبه هو الذي رفعه عن المريض فلا يصح أن يرجع ما ليس بواجب من الله واجبا من الله في حال كونه ليس بواجب .



[ ص: 226 ] (فصل)

من يقول إن صوم المسافر والمريض يجزئهما في شهر رمضان فهل الفطر لهما أفضل أم الصوم ؟ فمن قائل إن الصوم أفضل ومن قائل إن الفطر أفضل ومن قائل أنه على التخيير فليس أحدهما بأفضل من الآخر فمن اعتبر أن الصوم لا مثل له وأنه صفة للحق قال إنه أفضل ومن اعتبر أنه عبادة فهو صفة ذلة وافتقار فهو بالعبد أليق قال إن الفطر أفضل ولا سيما للسالك والمريض فإنهما يحتاجان إلى القوة ومنبعها الفطر عادة فالفطر أفضل ومن اعتبر أن الصوم من الاسم الإلهي رمضان وأن الفطر من الاسم الإلهي الفاطر وقال لا تفاضل في الأسماء الإلهية بما هي أسماء للإله تعالى قال ليس أحدهما بأفضل من الآخر لأن المفطر في حكم الفاطر والصائم في حكم رمضان وهذا مذهب المحققين في رفع الشريف والأشرف والوضيع والشريف الذي في مقابلته من العالم ثم الفطر الجائز للمسافر هل هو في سفر محدود أو غير محدود ؟ فمن قائل باشتراط سفر القصر ومن قائل في كل ما ينطلق عليه اسم السفر .

الاعتبار المسافرون إلى الله وهو الاسم الجامع وهو الغاية المطلوبة والأسماء الإلهية في الطريق إليه كالمنازل للمسافر في الطريق إلى غايته ومقصده وأقل السفر الانتقال من اسم إلى اسم فإن وحد الله في أول قدم من سفره كان حكمه بحسب ذلك وقد انطلق عليه أنه مسافر وليس لأكثره نهاية ولا حد فهذا اعتبار من قال يفطر فيما ينطلق عليه اسم سفر ومن قال بالتحديد في ذلك فاعتباره بحسب ما حدد فمن اعتبر الثلاثة في ذلك كان كمن له الأحدية أو الواحدية لا حكم له في العدد وإنما العدد في الاثنين فصاعدا والسفر هنا إلى الله فلا يسافر إليه إلا به فأول ما يلقاه من كونه مسافرا إليه في الفردية وهي الثلاثة فهذا هو السفر المحدود ثم المرض الذي يجوز فيه الفطر من قائل هو الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرر ومن قائل أن المرض الغالب ومن قائل أنه ما ينطلق عليه اسم مرض .

الاعتبار المريد تلحقه مشقة فإنه صاحب مكابدة وجهد فيعينه الاسم القوي على ما هو بصدده فهذا مرض يوجب الفطر وأما من اعتبر المرض بالميل وهو الذي ينطلق عليه اسم مرض والإنسان لا يخلو عن ميل بالضرورة فإنه بين حق وخلق وكل طرف يدعوه إلى نفسه فلا بد له من الميل ولا سيما أهل طريق الله فإنهم في مباحهم في حال ندب فلا يخلص لهم مباح أصلا فلا يوجد من أهل الله أحد تكون كفتا ميزانه على الاعتدال وهو عين المريض فلا بد فيه من الميل إلى جانب الحق وهذا هو اعتبار من يقول يفطر فيما ينطلق عليه اسم مرض وأن الله عند المريض بالإخبار الإلهي ولهذا تراه يلجأ إليه ويكثر ذكره ولو كان على أي دين كان فإنه بالضرورة يميل إليه ويظهر لك ذلك بينا في طلب النجاة فإن الإنسان بحكم الطبع يجري ويميل إلى طلب النجاة وإن جهل طريقها ونحن إنما نراعي القصد وهو المطلوب وأما من اعتبر المرض الغالب فهو ما يضاف إلى العبد من الأفعال فإنه ميل عن الحق في الأفعال إذ هي له فالموافق والمخالف يميل بها إلى العبد سواء مال اقتدارا أو خلقا أو كسبا فهذا ميل حسي شرعي ، ثم متى يفطر الصائم ومتى يمسك ؟ فمن قائل يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرا ومن قائل لا يفطر يومه ذلك واستحب العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة ذلك اليوم أن يدخلها صائما وإن دخل مفطرا لم يوجبوا عليه كفارة .

الاعتبار إذا خرج السالك في سلوكه على حكم اسم إلهي كان له إلى حكم اسم آخر دعاء إليه ليوصله إليه حكم اسم آخر ليس هو الذي خرج منه ولا هو الذي يصل إليه كان بحكم ذلك الاسم الذي يسلك وهو معه أينما كان فإن اقتضى ذلك الاسم الصوم كان بحكم صفة الصوم وإن اقتضى له الفطر كان بحكم صفة الفطر فإذا علم أنه يحصل في يومه الذي هو نفسه في حكم الاسم الذي دعا إليه ويريد النزول عليه فليكن في حكم صفة ذلك الاسم من فطر أو صوم ولا أعين له حالا من الأحوال لأن أحوال الناس تختلف في ذلك ولا حرج عليه ثم اختلف العلماء فيمن دخل المدينة وقد ذهب بعض النهار فقال بعضهم : يتمادى على فطره وقال آخرون : يكف عن الأكل وكذلك الحائض تطهر تكف عن الأكل .

الاعتبار من كان له مطلوب في سلوكه فوصل إليه هل يحجبه فرحه لما وصل إليه عن شكره بمن أوصله إليه فإن حجبه تغير الحكم عليه وراعى حكم الإمساك عنه وإن لم يحجبه [ ص: 227 ] ذلك اشتغل عن الوصول بمراعاة من أوصله فلم يخرج عن حكمه وتمادى على الصفة التي كان عليها سلوكه عابدا لذلك الاسم عبادة شكر لا عبادة تكليف وكذلك الحائض وهو كذب النفس ترزق الصدق فتطهر عن الكذب الذي هو حيضها والحيض سبب فطرها فهل تتمادى على الصفة بالكذب المشروع من إصلاح ذات البين أو تستلزم ما هو وصف في محمود واجب أو مندوب فإن الصدق المحظور كالكذب المحظور يتعلق بهما الإثم والحجاب على السواء مثاله من يتحدث بما جرى له مع امرأته في الفراش فأخبر بصدق ، وهو من الكبائر وكذلك الغيبة والنميمة ثم هل للصائم بعد رمضان أن ينشئ سفرا ثم لا يصوم فيه أو لا ؟ فمن قائل : يجوز له ذلك وهو الجمهور ومن قائل : لم يجز له الفطر روي هذا القول عن سويد بن غفلة وغيره .

الاعتبار لما كان عند أهل الله كلهم أن كل اسم إلهي يتضمن جميع الأسماء ولهذا ينعت كل اسم إلهي بجميع الأسماء الإلهية لتضمنه معناها كلها ولأن كل اسم إلهي له دلالة على الذات كما له دلالة على المعنى الخاص به وإذا كان الأمر كما ذكرناه فأي اسم إلهي حكم عليك سلطانه قد يلوح لك في ذلك الحكم معنى اسم إلهي آخر يكون حكمه في ذلك الاسم أجل منه وأوضح من الاسم الذي أنت به في وقته سلوكا إليه فمن قائل منا يبقى على تجلي الاسم الذي لاح فيه ذلك المعنى ومنا من قال ينتقل إلى الاسم الذي لاح له معناه في التضمن فإنه أجلى وأتم فالرجل مخير إذا كان قويا على تصريف الأحوال فإن كان تحت تصريف الأحوال كان بحكم حال الاسم الذي يتضمن عليه بسلطانه والله أعلم .




الخدمات العلمية