الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك صلاح الدين مصر

لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب بن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير .

حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريبا إليه خصيصا به ، قال : لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج ، ويطلب إرسال العساكر ، أحضرني وأعلمني الحال ، وقال : تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر ، وتحثه أنت على الإسراع ، فما يحتمل الأمر التأخير ، ففعلت ، وخرجنا من حلب ، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادما في هذا المعنى ، فأمره نور الدين بالمسير ، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي : تجهز يا يوسف ! فقلت : والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها : فلقد قاسيت بالإسكندرية وغيرها ما لا أنساه أبدا ، فقال لنور الدين : لا بد من مسيره معي فتأمر به ، فأمرني نور الدين ، وأنا أستقيل ، وانقضى المجلس .

وتجهز أسد الدين ، ولم يبق غير المسير ، قال لي نور الدين : لا بد من مسيرك مع عمك ، فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك ، فأعطاني ما تجهزت به ، فكأنما أساق إلى الموت ، فسرت معه وملكها ، ثم توفي فملكني الله تعالى ما لم أكن أطمع في بعضه .

وأما كيفية ولايته ، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر ، وولاية الوزارة العاضدية بعده ، منهم : عين الدولة الياروقي ، وقطب الدين ، وسيف الدين المشطوب الهكاري ، وشهاب الدين محمود الحارمي ، وهو خال صلاح الدين ، وكل واحد من هؤلاء يخطبها ، وقد جمع أصحابه ليغالب عليها ، [ ص: 344 ] فأرسل العاضد إلى صلاح الدين ، فأحضره عنده ، وخلع عليه ، وولاه الوزارة بعد عمه .

وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له : ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف ، والرأي أن يولى ؛ فإنه لا يخرج من تحت حكمنا ، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا ، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد ، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه .

فلما خلع عليه لقب الملك الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ، ولا خدموه ، وكان الفقيه عيسى الهكاري معه ، فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه ، وقال له : إن هذا الأمر لا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما ، ثم قصد الحارمي ، وقال : هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك ، وقد استقام له الأمر ، فلا تكن أول من يسعى في إخرجه عنه ، ولا يصل إليك ، فمال إليه أيضا ، ثم فعل مثل هذا بالباقين ، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي ، فإنه قال : أنا لا أخدم يوسف ، وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء ، وثبت قدم صلاح الدين ، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين .

وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار ، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن أن يكتب اسمه ، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح [ الدين ] وجميع الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا .

واستمال صلاح الدين قلوب الناس ، وبذل الأموال ، فمالوا إليه ، وأحبوه ، وضعف أمر العاضد ، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله ، فأرسلهم إليه ، وشرط عليهم طاعته والقيام بأمره ، ومساعدته ، وكلهم فعل ذلك ، وأخذ إقطاعات الأمراء المصريين ، فأعطاها أهله والأمراء الذين معه ، وزادهم ، فازدادوا له حبا وطاعة .

قد اعتبرت التواريخ ، فرأيت كثيرا من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها ، ورأيت كثيرا ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه ، منهم أول الإسلام : معاوية بن أبي سفيان ، أول من ملك من أهل بيته ، فنقل الملك عن [ ص: 345 ] أعقابه إلى بني مروان من بني عمه ، ثم من بعده السفاح أول من ملك من بني العباس ، انتقل الملك من أعقابه إلى أخيه المنصور ، ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد ، فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه ، ثم يعقوب الصفار ، وهو أول من ملك من أهل بيته ، فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه ، ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة ، ثم خلص في أعقاب ركن الدولة ، ( ومعز الدولة ) ، ثم خلص في أعقاب ركن الدولة ، ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرلبك انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود ، ثم شيركوه هذا كما ذكرناه ( انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب ، ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها ، وصار كأنه أول لها ، نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ، ولم يبق بيد أعقابه غير حلب ) .

وهذه أعظم الدول الإسلامية ، ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا ، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ، ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له .

التالي السابق


الخدمات العلمية