الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو " وقلن حاشا لله " بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع [ ص: 103 ] وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد ، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورانها على الألسن اتباعا للمصحف . و " حاشا " كلمة تفيد معنى التنزيه ، والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله . وأما قوله : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم : ( طلعها كأنه رءوس الشياطين ) [ الصافات : 65 ] وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك ، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة ، وجواذب الغضب ، ونوازع الوهم والخيال ، فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن البتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرا من أثر الشهوة ، ولا شيئا من البشرية ، ولا صفة من الإنسانية ، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر ، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة ؟ فالجواب قد سبق . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : القائلون بأن الملك أفضل من البشر ، احتجوا بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام ، فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سببا لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالا من البشر ، ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر ، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطل لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم وصفوه بكونه كريما ، وإنما يكون كريما بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة البتة . أما كونه بعيدا عن الشهوة والغضب معرضا عن اللذات الجسمانية متوجها إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب والروح فيه ، فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه البتة ، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن ، لا في الصورة الظاهرة ، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالا من الإنسان في هذه الفضائل ، فثبت أن الملك أفضل من البشر ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : لغة أهل الحجاز إعمال " ما " عمل ليس وبها ورد قوله : ( ما هذا بشرا ) ومنها قوله : ( ما ) [ ص: 104 ] ( هن أمهاتهم ) [ المجادلة : 2 ] ومن قرأ على لغة بني تميم ، قرأ " ما هذا بشر " وهي قراءة ابن مسعود ، وقرئ " ما هذا بشرا " أي ما هو بعبد مملوك للبشر ( إن هذا إلا ملك كريم ) ثم نقول : ما هذا بشرا ، أي حاصل بشرا بمعنى هذا مشترى ، ونقول : هذا لك بشرا أم بكرا ، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ، ولمقابلة البشر للملك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية