الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب الرجل يحرم في ثيابه

                                                                      1819 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام قال سمعت عطاء أخبرنا صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق أو قال صفرة وعليه جبة فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فلما سري عنه قال أين السائل عن العمرة قال اغسل عنك أثر الخلوق أو قال أثر الصفرة واخلع الجبة عنك واصنع في عمرتك ما صنعت في حجتك حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء عن يعلى بن أمية وهشيم عن الحجاج عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه بهذه القصة قال فيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اخلع جبتك فخلعها من رأسه وساق الحديث حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني الرملي قال حدثني الليث عن عطاء بن أبي رباح عن ابن يعلى ابن منية عن أبيه بهذا الخبر قال فيه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزعها نزعا ويغتسل مرتين أو ثلاثا وساق الحديث حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت قيس بن سعد يحدث عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقد أحرم بعمرة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه وساق هذا الحديث

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ) : في فتح الباري لم أقف على اسمه لكن ذكر ابن فتحون أن اسمه عطاء بن منية . قال ابن فتحون : إن ثبت ذلك فهو أخو يعلى بن منية راوي الخبر ، ويجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي فإنه من رواية عطاء عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه ، ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا ، ويجوز أن يكون عمرو بن سواد إذ في كتاب الشفاء للقاضي عياض عنه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا متخلق الحديث ، لكن عمرو هذا لا يدرك ذا ؛ فإنه صاحب ابن وهب ( وهو بالجعرانة ) : بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء على الصحيح ، ومنهم من يقول بكسر الجيم والعين المهملة وتشديد الراء . وهذا هو المشهور على الألسنة وهي بين الطائف ، وهي إلى مكة أدنى في حدود الحرم ، أحرم منه للعمرة وهو أفضل من التنعيم عند الشافعية . خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله - بناء على أن الدليل القولي أقوى عنده ؛ لأن القول لا يصدر إلا عن قصده ، والفعل يحتمل أن [ ص: 208 ] يكون اتفاقيا لا قصديا ، وقد أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم وهو أقرب المواضع من الحرم . قاله علي القاري . ( وعليه أثر خلوق ) : بفتح الخاء المعجمة نوع من الطيب يتخذ من الزعفران وغيره ، حتى كاد يتقاطر الطيب من بدنه ( وعليه جبة ) : ثوب معروف ومنه قولهم : جبة البرد جنة البرد ( فلما سري عنه ) : بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف عنه شيئا بعد شيء ( اغسل عنك أثر الخلوق ) : هو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه ( واصنع في عمرتك إلخ ) : فيه دليل على أنهم كانوا يعرفون أعمال الحج . قال ابن العربي : كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ، ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة ، فأخبره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن مجراهما واحد . وقال ابن المنير : قوله واصنع معناه اترك ؛ لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل ، وأما قول ابن بطال : أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر ؛ لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده . قاله الحافظ .

                                                                      قال الخطابي : فيه من الفقه أن من أحرم وعليه ثياب مخيط من قميص وجبة ونحوهما لم يكن عليه تمزيقه ، وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم . وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : يشقه . وعن الشعبي قال يمزق ثيابه .

                                                                      قلت : وهذا خلاف السنة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره بخلع الجبة ، وخلعها الرجل من رأسه ، فلم يوجب عليه غرامة ، وقد نهى - صلى الله عليه وآله وسلم - عن إضاعة المال [ ص: 209 ] وتمزيق الثياب تضييع له فهو غير جائز . وقال المنذري : وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي . ( عن يعلى بن منية ) : يقال فيه يعلى بن أمية ويعلى بن منية وأمية أبوه ومنية أمه ( ويغتسل ) : أي محل الطيب من البدن أو الثوب ( مرتين أو ثلاثا ) : وفي رواية البخاري : اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات . قال ابن جريج - أحد رواته - فقلت لعطاء : أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات فقال : نعم . قال الحافظ : إن عطاء فهم من السياق أن قوله ثلاث مرات من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه أعاد لفظه اغسله مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه . نبه عليه عياض ، انتهى . وقوله في : الحديث اغسل عنك أثر الخلوق وهو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه . وفي رواية البخاري : عليه قميص فيه أثر صفرة . والخلوق في العادة إنما يكون في الثوب . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن قتادة عن عطاء بلفظ : رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق . ولمسلم من طريق رباح عن عطاء مثله . وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك ومنصور وغيرهما عن عطاء عن يعلى أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحرمت وعلي جبتي هذه وعلى جبته ردغ من خلوق ، الحديث . وفيه : فقال اخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران .

                                                                      وفي هذه الروايات كلها رد على الحافظ الإسماعيلي حيث قال : ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب ، وإنما فيه أن الرجل كان متضمخا وكان مصفرا لحيته ورأسه . وفي لفظ البخاري : أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وهو يوضح أن الطيب لم يكن على ثوبه وإنما كان على بدنه ، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام . انتهى كلامه .

                                                                      واستدل بحديث الباب على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن ، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن . وأجاب الجمهور عنه بأن قصة يعلى [ ص: 210 ] كانت بالجعرانة وهي في سنة ثمان بلا خلاف ، وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها عند إحرامهما ، وكان ذلك في حجة الوداع وهي سنة عشر بلا خلاف ، وإنما يؤخذ بالأمر الآخر فالآخر ، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب ، فلعل علة الآمر فيه ما خالطه من الزعفران ، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم .

                                                                      واستدل أيضا على أن من أصاب طيبا في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه . وعلى أن اللبس جهلا لا يوجب الفدية . وقال مالك : إن طال ذلك عليه لزمه دم . وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية : يجب مطلقا . باب ما يلبس المحرم

                                                                      قال الحافظ : المراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن . وحكى ابن دقيق العيد أن ابن عبد السلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام يعني على مذهب الشافعي ويرد على من يقول إنه النية ؛ لأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه ، وشرط الشيء غيره ، ويعترض على من يقول إنه التلبية : بأنها ليست ركنا ، وكأنه يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء ، انتهى . والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية ونحو ذلك .




                                                                      الخدمات العلمية